تحليل المقامة البغدادية
المقامات جنس أدبي ظهر مع بديع الزمان الهمذاني في القرن
الرابع للهجرة في كتابه المقامات و أضاف إليه الحريرى في
القرن السادس للهجرة كتابا آخر أطلق عليه اسم مقامات
الحريري.
و مقامات الهمذاني هي جملة من الحكايات يبلغ عددها 52 حكاية
أو مقامة ينسب روايتها إلى عيسى بن هشام ، و تعمسلم هذه
المقامات انتشار ظاهرة التحيّل و التكدّي في القرن الرابع
للهجرة ، كما تعمسلم هذه المقامات اهتمام الأدباء بعلم البديع
و هو أحد فروع علم البلاغة. و لقد اخترت للتحليل هذه المقامة
التي تحمل عنوان " المقامة البغدادية " و هذا نصّها:
المقامة البغدادية
حَدَّثَنَا عِيَسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: اشْتَهَيْتُ الأَزَاذَ، وأَنَا بِبَغْدَاذَ، وَلَيِسَ
مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ، فَخَرْجْتُ أَنْتَهِزُ مَحَالَّهُ حَتَّى أَحَلَّنِي الكَرْخَ، فَإِذَا
أَنَا بِسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ، وَيَطَرِّفُ بِالعَقْدِ إِزَارَهُ، فَقُلْتُ:
ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ وَأَيْنَ
نَزَلْتَ؟ وَمَتَى وَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ، فَقَالَ السَّوادِيُّ: لَسْتُ بِأَبِي
زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَ
النِّسْيانَ، أَنْسَانِيكَ طُولُ العَهْدِ، وَاتْصَالُ البُعْدِ، فَكَيْفَ حَالُ أَبِيكَ ؟
أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي؟ فَقَالَ: َقدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى دِمْنَتِهِ،
وَأَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَى جَنَّتِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَلاَ حَوْلَ ولاَ قُوةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيم، وَمَدَدْتُ يَدَ البِدَارِ، إِلي
الصِدَارِ، أُرِيدُ تَمْزِيقَهُ، فَقَبَضَ السَّوادِيُّ عَلى خَصْرِي بِجِمُعْهِ، وَقَالَ:
نَشَدْتُكَ اللهَ لا مَزَّقْتَهُ، فَقُلْتُ: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى
السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ، فَاسْتَفَزَّتْهُ حُمَةُ
القَرَمِ، وَعَطَفَتْهُ عَاطِفُةُ اللَّقَمِ، وَطَمِعَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ، ثُمَّ
أَتَيْنَا شَوَّاءً يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقاً، وَتَتَسَايَلُ جُوذَابَاتُهُ مَرَقاً،
فَقُلْتُ: افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ،
واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ، وَرُشَّ
عَلَيْهِ شَيْئَاً مِنْ مَاءِ السُّمَّاقِ، لِيأَكُلَهُ أَبُو زَيْدٍ هَنيَّاً، فَأنْخّى
الشَّواءُ بِسَاطُورِهِ، عَلَى زُبْدَةِ تَنُّورِهِ، فَجَعَلها كَالكَحْلِ سَحْقاً،
وَكَالطِّحْنِ دَقْا، ثُمَّ جَلسَ وَجَلَسْتُ، ولا يَئِسَ وَلا يَئِسْتُ، حَتَّى اسْتَوفَيْنَا،
وَقُلْتُ لِصَاحِبِ الحَلْوَى: زِنْ لأَبي زَيْدٍ مِنَ اللُّوزِينج رِطْلَيْنِ فَهْوَ أَجْرَى
فِي الحُلْوقِ، وَأَمْضَى فِي العُرُوقِ، وَلْيَكُنْ لَيْلَّي العُمْرِ، يَوْمِيَّ النَّشْرِ،
رَقِيقَ القِشْرِ، كَثِيفِ الحَشْو، لُؤْلُؤِيَّ الدُّهْنِ، كَوْكَبيَّ اللَّوْنِ، يَذُوبُ
كَالصَّمْغِ، قَبْلَ المَضْغِ، لِيَأْكُلَهُ أَبَو َزيْدٍ هَنِيَّاً، قَالَ: فَوَزَنَهُ ثُمَّ قَعَدَ
وَقَعدْتُ، وَجَرَّدَ وَجَرَّدْتُ، حَتىَّ اسْتَوْفَيْنَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا زَيْدٍ مَا
أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ بِالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ، وَيَفْثأَ هذِهِ
اللُّقَمَ الحَارَّةَ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِيكَ بِسَقَّاءٍ، يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ
ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُ ولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ، فَلَمَّا
أَبْطَأتُ عَلَيْهِ قَامَ السَّوادِيُّ إِلَى حِمَارِهِ، فَاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بِإِزَارِهِ،
وَقَالَ: أَيْنَ ثَمَنُ ما أَكَلْتَ؟ فَقَالَ: أَبُو زَيْدٍ: أَكَلْتُهُ ضَيْفَاً، فَلَكَمَهُ
لَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّوَّاءُ: هَاكَ، وَمَتَى دَعَوْنَاكَ؟
زِنْ يَا أَخَا القِحَةِ عِشْرِينَ، فَجَعَلَ السَّوَادِيُّ يَبْكِي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ
بِأَسْنَانِهِ وَيَقُولُ: كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ
يَقُولُ: أَنْتَ أَبُو زَيْدٍ، فَأَنْشَدْتُ:
أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلـهْ *** لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَـالَـهْ
وَانْهَضْ بِكُلِّ عَظِـيَمةٍ *** فَالمَرْءُ يَعْجِزُ لاَ مَحَالَهْ
تحليل النصّ
إن المقامات جنس أدبي ثري جدا باعتبارها تجمع بين مختلف أنماط
الكتابة من سرد و وصف و حوار بالاضافة إلى جمعها بين النثر
المسجّع و الشعر، و لقد اعتمد الراوي الشخصية عيسى بن هشام
في المقامة البغدادية على عديد الحيل من أجل الايقاع بالسواديّ
و اجباره على دفع ثمن وجبة الغداء. و يمكن تقسيم هذا النص
إلى ثلاث وحدات حسب اختلاف أنماط لكتابة ، فالوحدة الأولى و تتمثل
في السند و هو عبارة عن جملة يمكن اعتبارها مفتاحا لعملية
السرد لأنها تحتوي على مركب سرديّ تأطيري، أما الوحدة الثانية
فهي متن الحكاية و تتضمن جملة الأقوال و الأفعال التي قام بها
عيسى بن هشام من أجل انجاح عملية التحيل ، و الوحدة الأخيرة
هي عبارة عن خاتمة شعرية تتضمن العبرة التي يمكن استنتاجها من
الأحداث السابقة.
و لقد ارتبط عنوان المقامة بالفضاء المكاني " بغداد " و هي
من السّمات التي طغت على أغلب المقامات ، و هو بذلك يشير إلى
أن الاطار المكاني الذي دارت فيه الأحداث هو اطار واقعي.
و قد انفتحت المقامة على بمركب سردي " حدثنا عيسى بن هشام
قال" . ففعل حدث و هو فعل سردي يشير إلى أن النص في أساسه
هو نص شفوي ألقي في مجلس على ضمير المتكلم الجمع " النحن"
من طرف الراوي الشخصية عيسى بن هشام ، و كان الراوي الكاتب
بديع الزمان الهمذاني من ضمن الحاضرين في هذا المجلس فحوّل
النصّ من الشفاهة إلى الكتابة، لذلك يمكن أن نعتبر السند يدلّ
على شخصية الراوي الكاتب الذي لا يعرف شيئا عن الأحداث
و يقتصر دوره على كتابتها، و يدل أيضا على طبيعة الثقافة
العربية الشفوية التي تجد انتشارها في المجالس الأدبية و المساجد
و حلقات الدرس. كما أن وجود السند في ايهام بواقعية الأحداث
خاصة و أن الراوي الكاتب ليس الوحيد الذي استمع إلى هذه
الحكاية بل شاركه في الاستماع إليها جماعة لم يذكر أسماءهم،
و الايهام بواقعية الأحداث أمر هام لأنه يزيد في اهتمام السامع
أو القارئ بأحداث الحكاية فيجد متعة في الاستماع أو القراءة
أكثر من المتعة التي يجدها القارئ عندما يطلع على حكاية خيالية،
بالاضافة إلى أن واقعية الأحداث و الشخصيات من الأمور الضرورية
باعتبار عامل الدين الذي يعتبر أن سرد الأحداث الخيالية هو
نوع من الكذب الذي ينهى عنه الدين ، لذلك يعمد أغلب الرواة
إلى اعتماد السند كدليل على أن الأحداث المروية هي أحداث
حقيقية و واقعية في حين أننا عندما نبحث في شخصية الراوي
الشخصية عيسى بن هشام نجد أنها شخصية غير معروفة في الواقع
و المرجح أنها من انتاج الراوي الكاتب.
و لقد بدأ الراوي في السرد مستعملا ضمير الأنا مما يدل على أنه
راو شخصية فبدأ بسرد الأفعال و الأحوال " اشتهيت - ليس معي
عقد على نقد " ، و عمسلم وضع البداية توتر الشخصية و تأزمها
بين الرغبة في أكل الأزاذ و عدم امتلاك الأموال لشرائه ،
فالرغبة باعتبارها قادحا على الفعل و هو الأكل لا يمكن تحققها
مع وجود عائق الفقر ، و لقد كانت الشخصية الرئيسية : عيسى
بن هشام مدركة لهذه الأزمة و واعية بأسبابها ، و رغم هذا
الوعي فإن هذه الشخصية سعت إلى الحصول على مبتغاها و تحقيق
رغبتها بقولها " و خرجت أنتهز محاله .."و هو أمر يبدو غريبا
و مستفزّا للقارئ لمزيد القراءة و الاطلاع . فالمال ليس وحده
السبيل لتحقيق الرغبات و إنما هناك أمر آخر لا يعرفه إلا
عيسى بن هشام الذي التقى عن طريق الصدفة بشخصية مساعدة
هي شخصية السواديّ فكانت سببا في الانتقال من سرد الأفعال
و الأحوال إلى سرد الأقوال و الانتقال من استعمال الألوب الخبري
إلى استعمال الأسلوب الانشائي عن طريق الاستفهام و التحول من
السرد و الوصف إلى الحوار الذي مكن عيسى بن هشام من التعرف
على شخصية السواديّ عن طريق طرح الأسئلة ، و لعل المعرفة
بالآخرين هي من مقوّمات أدب الكدية ، خاصة و أن الحوار هو
الذي كشف عن طبيعة الحلّ لتحقيق الرغبة و ساعد على نسج معالم
الخطة التي من شأنها أن توقع بالسواديّ ، و أتاح للقارئ أن
يتبين الطريقة التي يمكن بها أن يحقق عيسى بن هشام رغبته في
الأكل رغم عدم امتلاكه للمال ، و هذه الخطّة تقوم أساسا على
انتهاز الفرصة و التحيل على الضحية باستغلال سذاجتها
و التمويه عليها بعد مسلمب ثقتها . يقول عيسى بن هشام عن
السوادي " طمع و لم يعلم أنه وقع". و يبدو من خلال المقارنة
بين الشخصيتين عدم أنهما غير متكافئتين . فشخصية السواديّ تعيش
في البادية و تشعر بالتعب و الإعياء " يسوق بالجهد حماره"
و تتميز بالتلقائية و العفوية و السذاجة و البساطة ،
و يتجلى ذلك من خلال حواره مع عيسى بن هشام الذي يعيش
معاناة بين الرغبة و كيفية تحقيقها و يتميز بالحدس و الخبرة
بأصناف الناس و نفسياتهم و بحضور البديهة و بالقدرة على
التمثيل و التقمّص الوجداني لمختلف الأدوار ، و يتميز كذلك
بالروح الساخرة و الذكاء و الدّهاء و بفصاحة اللسان و بلاغة
القول و يتجلى ذلك باستعماله للسجع مثل " العهد - البعد
أو الشيطان - النسيان " و قدرته على الوصف مثل وصفه للأطعمة
بقوله " كثيف الحشو - لؤلؤيّ الدهن ، كوكبيّ اللون - أجرى في
الحلوق و أمضى في العروق، و استعمال التماثل في الصيغ
و التراكيب. و هذا التقابل بين الشخصيتين هو الذي يدفع بالحدث
نحو التأزّم و ييسّر التحوّل إلى وضعية الختام. فبعد أن انطلت
الحيلة على السوادي و ظنّ أن عيسى بن هشام هو الذي استدعاه
لتناول الغداء في أحد المطاعم ، و بعد أن لبّى عيسى بن هشام
حاجته من الأكل و حقق رغبته كان لا بدّ كم حدث قادح يوجّه
الأحداث نحو النهاية و يمكن الشخصية الرئيسية من الفرار
و الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه ، و هذا الحدث هو
الحاجة إلى ماء يقمع هذه الصارة و يفثأ اللقم الحارّة، و لقد
استغل عيسى بن هشام جهل السواديّ و غبائه و انخداعه بالكلام
الطيب فانطلت الحيلة عليه مرّة أخرى.و رغم ما أصاب السوادي
من ضرب و عقاب فإن عيسى بن هشام لم يرأف لحاله و إنما سخر
منه و تهكم عليه بتشبيهه بالقريد.
و انتهت المقامة ببيتين من الشعر في شكل حكمي يعمسلم خلاصة التجربة
و مميزات العصر فاستعمل عيسى بن هشام في هذين البيتين أفعال
الأمر و النهي للتأكيد على صحة الحكمة التي استخلصها من هذه
الحكاية و لدعوة السامع أو القارئ إلى ضرورة الاعتبار ،
و تتمثل هذه الحكمة في الدعوة إلى توفير الرزق بكل السبل
الممكنة ، فالغاية تبرر الوسيلة.
و تكشف هذه المقامة ما أصاب مجتمع القرن الرابع للهجرة من
تدهور أخلاقي و قيمي ، فأصبح الفرد يستعمل شتى الطرق من
أجل الحصول على غايته ، فلقد انعدم التكافل و التآزر
و التعاون بين أفراد المجتمع و طغت الأنانية الفردية على
الأفراد و الجماعات و انعدمت الرحمة من القلوب و هي علامات
تدل على انهيار هذا المجتمع و تفككه
هذه مجرد محاولة لتحليل هذا النص الأدبي ، و هي في حاجة
إلى آرائكم و إضافاتكم
المقامات جنس أدبي ظهر مع بديع الزمان الهمذاني في القرن
الرابع للهجرة في كتابه المقامات و أضاف إليه الحريرى في
القرن السادس للهجرة كتابا آخر أطلق عليه اسم مقامات
الحريري.
و مقامات الهمذاني هي جملة من الحكايات يبلغ عددها 52 حكاية
أو مقامة ينسب روايتها إلى عيسى بن هشام ، و تعمسلم هذه
المقامات انتشار ظاهرة التحيّل و التكدّي في القرن الرابع
للهجرة ، كما تعمسلم هذه المقامات اهتمام الأدباء بعلم البديع
و هو أحد فروع علم البلاغة. و لقد اخترت للتحليل هذه المقامة
التي تحمل عنوان " المقامة البغدادية " و هذا نصّها:
المقامة البغدادية
حَدَّثَنَا عِيَسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: اشْتَهَيْتُ الأَزَاذَ، وأَنَا بِبَغْدَاذَ، وَلَيِسَ
مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ، فَخَرْجْتُ أَنْتَهِزُ مَحَالَّهُ حَتَّى أَحَلَّنِي الكَرْخَ، فَإِذَا
أَنَا بِسَوادِيٍّ يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ، وَيَطَرِّفُ بِالعَقْدِ إِزَارَهُ، فَقُلْتُ:
ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ وَأَيْنَ
نَزَلْتَ؟ وَمَتَى وَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ، فَقَالَ السَّوادِيُّ: لَسْتُ بِأَبِي
زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَ
النِّسْيانَ، أَنْسَانِيكَ طُولُ العَهْدِ، وَاتْصَالُ البُعْدِ، فَكَيْفَ حَالُ أَبِيكَ ؟
أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي؟ فَقَالَ: َقدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى دِمْنَتِهِ،
وَأَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَى جَنَّتِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَلاَ حَوْلَ ولاَ قُوةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيم، وَمَدَدْتُ يَدَ البِدَارِ، إِلي
الصِدَارِ، أُرِيدُ تَمْزِيقَهُ، فَقَبَضَ السَّوادِيُّ عَلى خَصْرِي بِجِمُعْهِ، وَقَالَ:
نَشَدْتُكَ اللهَ لا مَزَّقْتَهُ، فَقُلْتُ: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى
السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ، فَاسْتَفَزَّتْهُ حُمَةُ
القَرَمِ، وَعَطَفَتْهُ عَاطِفُةُ اللَّقَمِ، وَطَمِعَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ، ثُمَّ
أَتَيْنَا شَوَّاءً يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقاً، وَتَتَسَايَلُ جُوذَابَاتُهُ مَرَقاً،
فَقُلْتُ: افْرِزْ لأَبِي زَيْدٍ مِنْ هَذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ،
واخْتَرْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ، وَرُشَّ
عَلَيْهِ شَيْئَاً مِنْ مَاءِ السُّمَّاقِ، لِيأَكُلَهُ أَبُو زَيْدٍ هَنيَّاً، فَأنْخّى
الشَّواءُ بِسَاطُورِهِ، عَلَى زُبْدَةِ تَنُّورِهِ، فَجَعَلها كَالكَحْلِ سَحْقاً،
وَكَالطِّحْنِ دَقْا، ثُمَّ جَلسَ وَجَلَسْتُ، ولا يَئِسَ وَلا يَئِسْتُ، حَتَّى اسْتَوفَيْنَا،
وَقُلْتُ لِصَاحِبِ الحَلْوَى: زِنْ لأَبي زَيْدٍ مِنَ اللُّوزِينج رِطْلَيْنِ فَهْوَ أَجْرَى
فِي الحُلْوقِ، وَأَمْضَى فِي العُرُوقِ، وَلْيَكُنْ لَيْلَّي العُمْرِ، يَوْمِيَّ النَّشْرِ،
رَقِيقَ القِشْرِ، كَثِيفِ الحَشْو، لُؤْلُؤِيَّ الدُّهْنِ، كَوْكَبيَّ اللَّوْنِ، يَذُوبُ
كَالصَّمْغِ، قَبْلَ المَضْغِ، لِيَأْكُلَهُ أَبَو َزيْدٍ هَنِيَّاً، قَالَ: فَوَزَنَهُ ثُمَّ قَعَدَ
وَقَعدْتُ، وَجَرَّدَ وَجَرَّدْتُ، حَتىَّ اسْتَوْفَيْنَاهُ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا زَيْدٍ مَا
أَحْوَجَنَا إِلَى مَاءٍ يُشَعْشِعُ بِالثَّلْجِ، لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ، وَيَفْثأَ هذِهِ
اللُّقَمَ الحَارَّةَ، اجْلِسْ يَا أَبَا َزيْدٍ حَتَّى نأْتِيكَ بِسَقَّاءٍ، يَأْتِيكَ بِشَرْبةِ
ماءٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَجَلَسْتُ بِحَيْثُ أَرَاهُ ولاَ يَرَانِي أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ، فَلَمَّا
أَبْطَأتُ عَلَيْهِ قَامَ السَّوادِيُّ إِلَى حِمَارِهِ، فَاعْتَلَقَ الشَّوَّاءُ بِإِزَارِهِ،
وَقَالَ: أَيْنَ ثَمَنُ ما أَكَلْتَ؟ فَقَالَ: أَبُو زَيْدٍ: أَكَلْتُهُ ضَيْفَاً، فَلَكَمَهُ
لَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ، ثُمَّ قَالَ الشَّوَّاءُ: هَاكَ، وَمَتَى دَعَوْنَاكَ؟
زِنْ يَا أَخَا القِحَةِ عِشْرِينَ، فَجَعَلَ السَّوَادِيُّ يَبْكِي وَيَحُلُّ عُقَدَهُ
بِأَسْنَانِهِ وَيَقُولُ: كَمْ قُلْتُ لِذَاكَ القُرَيْدِ، أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، وَهْوَ
يَقُولُ: أَنْتَ أَبُو زَيْدٍ، فَأَنْشَدْتُ:
أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلـهْ *** لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَـالَـهْ
وَانْهَضْ بِكُلِّ عَظِـيَمةٍ *** فَالمَرْءُ يَعْجِزُ لاَ مَحَالَهْ
تحليل النصّ
إن المقامات جنس أدبي ثري جدا باعتبارها تجمع بين مختلف أنماط
الكتابة من سرد و وصف و حوار بالاضافة إلى جمعها بين النثر
المسجّع و الشعر، و لقد اعتمد الراوي الشخصية عيسى بن هشام
في المقامة البغدادية على عديد الحيل من أجل الايقاع بالسواديّ
و اجباره على دفع ثمن وجبة الغداء. و يمكن تقسيم هذا النص
إلى ثلاث وحدات حسب اختلاف أنماط لكتابة ، فالوحدة الأولى و تتمثل
في السند و هو عبارة عن جملة يمكن اعتبارها مفتاحا لعملية
السرد لأنها تحتوي على مركب سرديّ تأطيري، أما الوحدة الثانية
فهي متن الحكاية و تتضمن جملة الأقوال و الأفعال التي قام بها
عيسى بن هشام من أجل انجاح عملية التحيل ، و الوحدة الأخيرة
هي عبارة عن خاتمة شعرية تتضمن العبرة التي يمكن استنتاجها من
الأحداث السابقة.
و لقد ارتبط عنوان المقامة بالفضاء المكاني " بغداد " و هي
من السّمات التي طغت على أغلب المقامات ، و هو بذلك يشير إلى
أن الاطار المكاني الذي دارت فيه الأحداث هو اطار واقعي.
و قد انفتحت المقامة على بمركب سردي " حدثنا عيسى بن هشام
قال" . ففعل حدث و هو فعل سردي يشير إلى أن النص في أساسه
هو نص شفوي ألقي في مجلس على ضمير المتكلم الجمع " النحن"
من طرف الراوي الشخصية عيسى بن هشام ، و كان الراوي الكاتب
بديع الزمان الهمذاني من ضمن الحاضرين في هذا المجلس فحوّل
النصّ من الشفاهة إلى الكتابة، لذلك يمكن أن نعتبر السند يدلّ
على شخصية الراوي الكاتب الذي لا يعرف شيئا عن الأحداث
و يقتصر دوره على كتابتها، و يدل أيضا على طبيعة الثقافة
العربية الشفوية التي تجد انتشارها في المجالس الأدبية و المساجد
و حلقات الدرس. كما أن وجود السند في ايهام بواقعية الأحداث
خاصة و أن الراوي الكاتب ليس الوحيد الذي استمع إلى هذه
الحكاية بل شاركه في الاستماع إليها جماعة لم يذكر أسماءهم،
و الايهام بواقعية الأحداث أمر هام لأنه يزيد في اهتمام السامع
أو القارئ بأحداث الحكاية فيجد متعة في الاستماع أو القراءة
أكثر من المتعة التي يجدها القارئ عندما يطلع على حكاية خيالية،
بالاضافة إلى أن واقعية الأحداث و الشخصيات من الأمور الضرورية
باعتبار عامل الدين الذي يعتبر أن سرد الأحداث الخيالية هو
نوع من الكذب الذي ينهى عنه الدين ، لذلك يعمد أغلب الرواة
إلى اعتماد السند كدليل على أن الأحداث المروية هي أحداث
حقيقية و واقعية في حين أننا عندما نبحث في شخصية الراوي
الشخصية عيسى بن هشام نجد أنها شخصية غير معروفة في الواقع
و المرجح أنها من انتاج الراوي الكاتب.
و لقد بدأ الراوي في السرد مستعملا ضمير الأنا مما يدل على أنه
راو شخصية فبدأ بسرد الأفعال و الأحوال " اشتهيت - ليس معي
عقد على نقد " ، و عمسلم وضع البداية توتر الشخصية و تأزمها
بين الرغبة في أكل الأزاذ و عدم امتلاك الأموال لشرائه ،
فالرغبة باعتبارها قادحا على الفعل و هو الأكل لا يمكن تحققها
مع وجود عائق الفقر ، و لقد كانت الشخصية الرئيسية : عيسى
بن هشام مدركة لهذه الأزمة و واعية بأسبابها ، و رغم هذا
الوعي فإن هذه الشخصية سعت إلى الحصول على مبتغاها و تحقيق
رغبتها بقولها " و خرجت أنتهز محاله .."و هو أمر يبدو غريبا
و مستفزّا للقارئ لمزيد القراءة و الاطلاع . فالمال ليس وحده
السبيل لتحقيق الرغبات و إنما هناك أمر آخر لا يعرفه إلا
عيسى بن هشام الذي التقى عن طريق الصدفة بشخصية مساعدة
هي شخصية السواديّ فكانت سببا في الانتقال من سرد الأفعال
و الأحوال إلى سرد الأقوال و الانتقال من استعمال الألوب الخبري
إلى استعمال الأسلوب الانشائي عن طريق الاستفهام و التحول من
السرد و الوصف إلى الحوار الذي مكن عيسى بن هشام من التعرف
على شخصية السواديّ عن طريق طرح الأسئلة ، و لعل المعرفة
بالآخرين هي من مقوّمات أدب الكدية ، خاصة و أن الحوار هو
الذي كشف عن طبيعة الحلّ لتحقيق الرغبة و ساعد على نسج معالم
الخطة التي من شأنها أن توقع بالسواديّ ، و أتاح للقارئ أن
يتبين الطريقة التي يمكن بها أن يحقق عيسى بن هشام رغبته في
الأكل رغم عدم امتلاكه للمال ، و هذه الخطّة تقوم أساسا على
انتهاز الفرصة و التحيل على الضحية باستغلال سذاجتها
و التمويه عليها بعد مسلمب ثقتها . يقول عيسى بن هشام عن
السوادي " طمع و لم يعلم أنه وقع". و يبدو من خلال المقارنة
بين الشخصيتين عدم أنهما غير متكافئتين . فشخصية السواديّ تعيش
في البادية و تشعر بالتعب و الإعياء " يسوق بالجهد حماره"
و تتميز بالتلقائية و العفوية و السذاجة و البساطة ،
و يتجلى ذلك من خلال حواره مع عيسى بن هشام الذي يعيش
معاناة بين الرغبة و كيفية تحقيقها و يتميز بالحدس و الخبرة
بأصناف الناس و نفسياتهم و بحضور البديهة و بالقدرة على
التمثيل و التقمّص الوجداني لمختلف الأدوار ، و يتميز كذلك
بالروح الساخرة و الذكاء و الدّهاء و بفصاحة اللسان و بلاغة
القول و يتجلى ذلك باستعماله للسجع مثل " العهد - البعد
أو الشيطان - النسيان " و قدرته على الوصف مثل وصفه للأطعمة
بقوله " كثيف الحشو - لؤلؤيّ الدهن ، كوكبيّ اللون - أجرى في
الحلوق و أمضى في العروق، و استعمال التماثل في الصيغ
و التراكيب. و هذا التقابل بين الشخصيتين هو الذي يدفع بالحدث
نحو التأزّم و ييسّر التحوّل إلى وضعية الختام. فبعد أن انطلت
الحيلة على السوادي و ظنّ أن عيسى بن هشام هو الذي استدعاه
لتناول الغداء في أحد المطاعم ، و بعد أن لبّى عيسى بن هشام
حاجته من الأكل و حقق رغبته كان لا بدّ كم حدث قادح يوجّه
الأحداث نحو النهاية و يمكن الشخصية الرئيسية من الفرار
و الخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه ، و هذا الحدث هو
الحاجة إلى ماء يقمع هذه الصارة و يفثأ اللقم الحارّة، و لقد
استغل عيسى بن هشام جهل السواديّ و غبائه و انخداعه بالكلام
الطيب فانطلت الحيلة عليه مرّة أخرى.و رغم ما أصاب السوادي
من ضرب و عقاب فإن عيسى بن هشام لم يرأف لحاله و إنما سخر
منه و تهكم عليه بتشبيهه بالقريد.
و انتهت المقامة ببيتين من الشعر في شكل حكمي يعمسلم خلاصة التجربة
و مميزات العصر فاستعمل عيسى بن هشام في هذين البيتين أفعال
الأمر و النهي للتأكيد على صحة الحكمة التي استخلصها من هذه
الحكاية و لدعوة السامع أو القارئ إلى ضرورة الاعتبار ،
و تتمثل هذه الحكمة في الدعوة إلى توفير الرزق بكل السبل
الممكنة ، فالغاية تبرر الوسيلة.
و تكشف هذه المقامة ما أصاب مجتمع القرن الرابع للهجرة من
تدهور أخلاقي و قيمي ، فأصبح الفرد يستعمل شتى الطرق من
أجل الحصول على غايته ، فلقد انعدم التكافل و التآزر
و التعاون بين أفراد المجتمع و طغت الأنانية الفردية على
الأفراد و الجماعات و انعدمت الرحمة من القلوب و هي علامات
تدل على انهيار هذا المجتمع و تفككه
هذه مجرد محاولة لتحليل هذا النص الأدبي ، و هي في حاجة
إلى آرائكم و إضافاتكم