كيف نعد أطفالنا للمستقبل (1)
سألني أحد أصدقائي المعلمين : إننا المدرسة والمدرسين نعلم كل شيء من الأخلاق والقيم.. إلى المعارف والعلوم، لكن النتائج تأتي غير ذلك.. أو غير المرغوب فيها؛ فالقيم والأخلاق تكاد تكون مدمرة إلى غير ذلك.. وكلمني عن تفاصيل وسلوكيات غير مرغوب فيها.. بالتأكيد كل تلك المظاهر من فساد وغش وكذب وخوف ..إلخ لم نعلمها في مدارسنا، وبالعكس تماما.. إذن ما الذي يجري؟ هذا بالتأكيد يدفعنا للسؤال التالي : هل نحن نعلم، أم نربي؟؟ في مشاركتي لإحدى جنازات الشهداء في المخيم، جذب انتباهي: أحد الفتيان (لم يتجاوز عمره 16 عاما) كان يحمل سلاحا ويطلق الرصاص في الهواء.. عمر الطفل كان يثير في نفسي تساؤلات عديدة.. همست لمن كان بجانبي بأننا سنحتاج وقتا كبيرا لتعديل سلوك أطفالنا، وقد لا ننجح.. ما هي إلا لحظات حتى كان بعض المصورين الأجانب يلتقطون صورا للطفل.. اختاروه من بين العدد الكبير من المسلحين الذين شاركوا في الجنازة..
أكثر من طفل في المستوى الابتدائي أكدوا لي أن بعض المعلمين يضيعون وقت حصصهم في كلام السياسة، وأن أحدهم سأل تلاميذه عن انتمائهم السياسي.. بعدها سلط ضربه وغضبه لفئة من تلاميذ الصف لأنها تناصر، أو تنتمي لحركة سياسية..!؟ كم من المعلمين يملكون الزاد الكافي ليكونوا معلمين حقيقيين؟ وكم من المعلمين مقتنعين بأن لدى التلاميذ ما يتعلمونه منهم، مثل ما لديهم ما يعلمونه لهم؟ وكم من المعلمين عندما يخطئ يعترف بخطئه أمام تلاميذ؟ أسئلة كثيرة.. التغافل عنها غفلة لها ثمن جد باهظ! والاهتمام بها يؤدي إلى نتائج أعظم ما فيها أنها تفاجئنا بالاحتمالات غير المتوقعة التي كانت في مستوى الأحلام، بل يتجاوزها أيضا.. علينا أن نعترف أن المجتمع بأفراده ومؤسساته مسؤول عن الولادتين: ولادة الفرد البيولوجية، وولادته الثقافية.. وإن كانت الولادة الأولى ذات طابع بيولوجي تنتج كائنا حيا؛ فإن الولادة الثانية (الثقافية) تحوله من مجرد كائن حي إلى كائن ثقافي.. وهذا يدفعنا للقول: إن رعاية الطفل ليست نوعا من التفضل أو فعل الخير، أو من قبيل الإحسان، ولا عملا من أعمال التظاهر الاجتماعي؛ وإنما هي وظيفة اجتماعية تبدأ بالإنجاب، ثم الرعاية، ثم التحويل إلى عضو عامل في المجتمع، لكن هل ندرك معنى الطفولة حقا؟ وهل نتعامل مع الطفل (هذا الكائن المقموع) تعاملا سليما؟!
هذا ما نستطيع نفيه بوضوح استنادا إلى الممارسات اليومية التي تمارس بحقه، سواء داخل الأسرة أو المجتمع أو المؤسسات التربوية؛ فهو يعاني من تربية غير مدروسة في أسرته، ثم يتعرض لمؤثرات المجتمع، وهو لم يتمتع بالحصانة الكافية، ولا بالنمو العقلي السليم، الأمر الذي ينعكس سلبا في ضعف قدراته على المحاكمة والتصور والتعميم والتجريد والتركيب والتحليل والتذكر وما إلى ذلك… وبعد ذلك يواجه المؤسسة التربوية غير المجهزة تماما سواء في مواصفاتها المادية، أو في أطرها التعليمية والتوجيهية.. هنا وفي هذه العجالة من الأمر، لا يمكننا إضاءة نقطة صغيرة في عالم التربية الكبير والمعقد التركيب؛ إلا أننا سنحاول تسليط الضوء على عوامل تنشئة الطفل وما يحيط به ويؤثر في ثقافته، وثمة أمور يمكن جمعها ضمن جانب معين لأنها تكون متقاربة، فمن علاقة الطفل بالغة والقراءة والتعليم وتنمية المهارات… إلى أثر أدب الأطفال ومطبوعات الأطفال والتلفزيون والألعاب، إلى أنواع التربية التي يتعرض لها بشكل مباشر، سواء أكانت تربية دينية أو قومية أو اجتماعية أو فكرية أو صحية أو جنسية، في البيت أو الشارع أو المدرسة..؟ (العرض هنا لإثارة الأسئلة أكثر من كونه إجابة لأسئلة ـ كما بدأنا ـ فإدراك أهميتها أكثر أهمية من تحديدها كعلل لها وصفة وعلاج معينين ..)
الطفل واللغة
تتجلى أهمية اللغة بالنسبة للطفل من خلال أهميتها في حياتنا كراشدين، فاللغة هي مفتاح تواصلنا عبر المكان والزمان، إنها ذاكرتنا الجماعية ومخزن مفاهيمنا وقيمنا ورؤانا وآفاقنا، ومصدر انتمائنا الاجتماعي والثقافي، هي التي تحفظ الخبرة عبر الأجيال، من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل، ويكتسب الفرد باكتسابها معظم ما يجمع شخصيته مع مجتمعه، وهي ذات تأثير كبير على حياة الفرد منذ نشأته، بما تشكله من حوافز لقدراته العقلية التي تنعكس على مجمل جوانب شخصيته، وبالتالي تنعكس على حياته على امتدادها، وبقدر تمكنه منها، بقدر ما يكون قادرا على التواصل مع المحيط، وطرح تصوراته، والإفصاح عن حاجاته ورغباته، وتعليل وتفسير مواقفه وآرائه، إضافة إلى استقبال هذه الأمور مع الآخرين، وكلما تمكن الفرد منها في عمر أصغر، كلما كان أكثر تميزا ونجاحا في حياته، وأكثر قدرة على التكيف والتفاهم والإقناع، وكلما تأخر في اكتسابها، كلما انعكس الأمر عليه سلبا، فيكون أقل قدرة ونجاحا، وهو بأسئلته وملاحظاته وإجاباته وتتبعه السمعي البصري (لاحقا) يكتسب معظم الجوانب الثقافية التي تكون شخصيته، إذ أننا ـ كبشر ـ لا نستطيع أن نفكر في شيء لا تسمح به كفاءتنا اللغوية، كما أننا لا نستطيع التفكير فيه فنحن محكومون إلى مدى معين في أفكارنا وأفعالنا باللغة التي نعرفها. اللغة بطبيعتها ونوع تراكيبها ودلالاتها تدل على الفرد وثقافته ونوع التربية التي خضع لها، وكذلك تدل على المجتمع ومفاهيمه وقيمه، فالكاتب أو الممثل يتقمص دور شخصية ما؛ فإنه يكون حريصا على تمثل لغة هذه الشخصية في مستواها ومجالها الاجتماعي، وكلما أفلح في هذا التمثل كلما كان أكثر إقناعا وصدقا..
واللغة التي يكتسبها الطفل لن تكون حيادية، إنما توجهه وتزوده بالمفاهيم السائدة وطرق التفكير المعتمدة سواء أكان هذا الاعتماد مقصودا أم عفويا.. هذا يعني أن الطفل يتأثر باللغة وكذلك معارفه تؤثر في لغته، وهذا التأثير المتبادل بين المعرفة واللغة أمر في غاية الأهمية، ويؤكد أن تكون أهمية اللغة بمفرداتها وتراكيبها ومفاهيمها سليمة لتكون التربية سليمة، وكذلك يؤكد أن سلامة التربية تعني أن الطفل يكتسب لغة سليمة.
في الواقع العربي الذي نحن جزء منه، تشكل اللغة أزمة حقيقية للتربية، وهذه الأزمة غير عائدة للغة العربية وطبيعتها، وإنما تعود إلى طبيعة تعامل الفكر العربي (التربوي خاصة) مع اللغة، إضافة إلى ما يشكله الواقع من عقبات في وجه هذه اللغة، ويمكننا إجمال هذه الأزمات في النقاط التالية:
1. اللغة الفصحى والعامية: الطفل منذ نشأته يكتسب لغة ويعايشها بشكل دائم ويبني تصوراته من فهم للوجود وانتمائه للجماعة، ثم يفاجأ أن لغة أخرى تزاحم لغته هذه، وإن كان يحس أحيانا بما يربطهما، إلا أن اللغتين تبدوان متناقضتين أو مختلفتين كل الاختلاف أحيانا، مثال: (ذهب الطفل إلى والدته الجالسة قرب النافذة .. ) ◄ راح الولد لعند أمو القاعدة جنب الشباك.. في العامية المصرية ◄ راح الواد لعند مامته الآعدة كنب الشباك.. وفي عامية دول الخليج ◄ راح العيل عند أمه الكاعدة حد الشباج..إلخ . هذه الأمثلة توضح مدى غرابة الفصحى على الطفل، فإما أن نلجأ إلى تعليمه إياها على أنها لغة ثانية أو نحاول تدارك الفصحى وإشاعتها بدلا من العامية.. ولا نؤكد أن العامية والفصحى لغة واحدة، فالطفل لن يكون مقتنعا بذلك ..
2. الاصطلاح الأعجمي الحديث: مصطلحات كثيرة ذات مصادر غريبة، دخلت وما تزال تدخل في لغتنا اليومية، الفصحى والعامية في آن واحد سواء كنا نتحدث أو نقرأ. وتشكل هذه المصطلحات أزمة حقيقية تدعو للحيرة تفقد لغتنا بريقها وتشكل نوعا من التبعية الثقافية، وغالبا ما تكون غير معبرة عن لغتنا ودلالاتها المتعددة، ومن أمثلة ذلك: (بيولوجيا : علم الحياة ـ بسكليت: الدراجة ـ بسكوت ـ جاتوه ـ تكسي ـ آيس كريم ـ مايكروفون ـ كمبيوتر ـ ديجيتال…إلخ) كلمات كثيرة لا يمكن حصرها واستبعادها ما لم يكن لها بديل مقنع ومعقول تتبناه مختلف الأطراف المساهمة في تربية الطفل وتشكيل ثقافته..
3. البنية اللا علمية، والخرافة: اللغة ليست مجرد تراكيب ومفردات ميتة، وإنما هي كائن حي، وحياتها في المعاني والمفاهيم التي ننقلها من جيل لآخر، وكذلك في تكيفها وقدرتها على التواصل عبر الزمان، لذلك فإنها بحد ذاتها بحاجة إلى تربية مستمرة، وبمعنى آخر بحاجة إلى تهذيب وتشذيب إضافة إلى تطوير بما يواكب العلم والمعرفة والعصر. فإذا كانت اللغة تحمل مفاهيم غير علمية، فإنها ستكون عقبة في طريق المعرفة الصحيحة والإدراك الموضوعي والعلمي للوجود! مثال في قولنا : (أشرقت الشمس) عندما ندقق فيه نجد أنه خطأ علمي، ولكي نكون أكثر دقة ربما يجب أن نقول: (أشرقنا على الشمس)، فلا بد من الاهتمام بهذا الأمر بمسؤولية ووعي لكي ننشئ الأطفال نشأة لغوية زاخرة بالعلوم والمعارف ضمن تراكيب وأساليب بعيدة عن مفاهيم الخرافة وعن العاطفية السلبية والانفعالات، وقريبة من العلم والمنطق .
4. تطوير اللغة: اللغة العربية في رسمها الإملائي تطورت وخضعت لتبدلات وتغيرات وإضافات كثيرة، أوصلتنا إلى نوع من التوازن والدقة . لكن هذا الأمر استمر إلى حد معين.. ونحن الآن نجد أنفسنا في ظل رفض غير عقلاني لتحسين هذه المبادئ والقواعد كيف نتقبل التحسينات التي تمت عبر القرون الخوالي ونرفض أي تحسين في عصرنا الحالي ؟! إنه أمر في غاية الغرابة.. ذلك أن دواعي التحسين الآن أكثر من أي وقت مضى.
◄متى يتعلم الطفل القراءة ؟؟ هناك اتجاهان. الأول يقول : إن الطفل يجب أن يأخذ وقتا طويلا قبل أن نقحمه في مجال تعلم القراءة وتعاطيها بدعوى إرهاق كاهل الطفل بهذه الأمور مبكرا يجعله يمل منها بسرعة، وكذلك يؤثر في أوجه نموه الأخرى سلبا!. وآخر يقول: إن لم يتعلم الطفل القراءة مبكرا فإنه سوف يفقد فرصته الأثمن في الحياة، وإن السن المناسبة لتعلمه القراءة هي قبل الرابعة، وإذا تمكن منها فإنه يكون مميزا وإن تأخر فلن تعوضه كل العلوم والمعارف التي يحصل عليها خسارته من جراء تأخير تعليمه القراءة.
إن طفل اليوم أصبح أكثر تميزا من طفل الأمس، ولعل هذا عائد إلى العملية التربوية التي أصبحت أكثر قربا من الاستمتاع والإثارة، وتطور الوسائل المتنوعة في تعليم الطفل المرتبطة باللعب والتشويق والإثارة المدهشة..
◄من مشكلات القراءة التي تواجه الأطفال ما يتعلق بالرسم القرآني والإملاء العربي. فالرسم القرآني ترسم فيه بعض الكلمات رسما لا يوافق لفظها مثل: (الزكوة، الصلوة، السموت، الرحمن…إلخ) إن استسلم الطفل لاختلافها فتثير في نفسه إشكالية.. هل هناك ضرورة للحفاظ على هذا الرسم؟؟ إذ أن القرآن الكريم أنزل لفظا ولم ينزل كتابة.. إذن ما الذي يمنع كتابة القرآن وفق قواعد الإملاء الحديثة طالما أن اللفظ محفوظ ومصان؟! ولماذا نصر على عدم وضع إشارات الترقيم (النقط، الفاصلة، الواصلة…إلخ) مع أنها ذات فائدة كبيرة لتيسيرها سهولة القراءة والفهم؟! وثمت مشكلات عديدة في الإملاء يختلف عنها بلاد عربية دون أخرى، خاصة فيما يخص أحكام الهمزة والأحرف المزيدة والمحذوفة رسما والثابتة نطقا…إلخ . إنها مشكلات حقيقية مهما تغافلنا عنها، فهي تحتاج منا إلى أكثر من وقفة تأمل وإلى جهود حقيقية وفاعلة من أهل الاختصاص. يتبع في الحلقة القادمة◄
عبد الكـريم عليــان
عضو صالون القلم الفلسطيني
سألني أحد أصدقائي المعلمين : إننا المدرسة والمدرسين نعلم كل شيء من الأخلاق والقيم.. إلى المعارف والعلوم، لكن النتائج تأتي غير ذلك.. أو غير المرغوب فيها؛ فالقيم والأخلاق تكاد تكون مدمرة إلى غير ذلك.. وكلمني عن تفاصيل وسلوكيات غير مرغوب فيها.. بالتأكيد كل تلك المظاهر من فساد وغش وكذب وخوف ..إلخ لم نعلمها في مدارسنا، وبالعكس تماما.. إذن ما الذي يجري؟ هذا بالتأكيد يدفعنا للسؤال التالي : هل نحن نعلم، أم نربي؟؟ في مشاركتي لإحدى جنازات الشهداء في المخيم، جذب انتباهي: أحد الفتيان (لم يتجاوز عمره 16 عاما) كان يحمل سلاحا ويطلق الرصاص في الهواء.. عمر الطفل كان يثير في نفسي تساؤلات عديدة.. همست لمن كان بجانبي بأننا سنحتاج وقتا كبيرا لتعديل سلوك أطفالنا، وقد لا ننجح.. ما هي إلا لحظات حتى كان بعض المصورين الأجانب يلتقطون صورا للطفل.. اختاروه من بين العدد الكبير من المسلحين الذين شاركوا في الجنازة..
أكثر من طفل في المستوى الابتدائي أكدوا لي أن بعض المعلمين يضيعون وقت حصصهم في كلام السياسة، وأن أحدهم سأل تلاميذه عن انتمائهم السياسي.. بعدها سلط ضربه وغضبه لفئة من تلاميذ الصف لأنها تناصر، أو تنتمي لحركة سياسية..!؟ كم من المعلمين يملكون الزاد الكافي ليكونوا معلمين حقيقيين؟ وكم من المعلمين مقتنعين بأن لدى التلاميذ ما يتعلمونه منهم، مثل ما لديهم ما يعلمونه لهم؟ وكم من المعلمين عندما يخطئ يعترف بخطئه أمام تلاميذ؟ أسئلة كثيرة.. التغافل عنها غفلة لها ثمن جد باهظ! والاهتمام بها يؤدي إلى نتائج أعظم ما فيها أنها تفاجئنا بالاحتمالات غير المتوقعة التي كانت في مستوى الأحلام، بل يتجاوزها أيضا.. علينا أن نعترف أن المجتمع بأفراده ومؤسساته مسؤول عن الولادتين: ولادة الفرد البيولوجية، وولادته الثقافية.. وإن كانت الولادة الأولى ذات طابع بيولوجي تنتج كائنا حيا؛ فإن الولادة الثانية (الثقافية) تحوله من مجرد كائن حي إلى كائن ثقافي.. وهذا يدفعنا للقول: إن رعاية الطفل ليست نوعا من التفضل أو فعل الخير، أو من قبيل الإحسان، ولا عملا من أعمال التظاهر الاجتماعي؛ وإنما هي وظيفة اجتماعية تبدأ بالإنجاب، ثم الرعاية، ثم التحويل إلى عضو عامل في المجتمع، لكن هل ندرك معنى الطفولة حقا؟ وهل نتعامل مع الطفل (هذا الكائن المقموع) تعاملا سليما؟!
هذا ما نستطيع نفيه بوضوح استنادا إلى الممارسات اليومية التي تمارس بحقه، سواء داخل الأسرة أو المجتمع أو المؤسسات التربوية؛ فهو يعاني من تربية غير مدروسة في أسرته، ثم يتعرض لمؤثرات المجتمع، وهو لم يتمتع بالحصانة الكافية، ولا بالنمو العقلي السليم، الأمر الذي ينعكس سلبا في ضعف قدراته على المحاكمة والتصور والتعميم والتجريد والتركيب والتحليل والتذكر وما إلى ذلك… وبعد ذلك يواجه المؤسسة التربوية غير المجهزة تماما سواء في مواصفاتها المادية، أو في أطرها التعليمية والتوجيهية.. هنا وفي هذه العجالة من الأمر، لا يمكننا إضاءة نقطة صغيرة في عالم التربية الكبير والمعقد التركيب؛ إلا أننا سنحاول تسليط الضوء على عوامل تنشئة الطفل وما يحيط به ويؤثر في ثقافته، وثمة أمور يمكن جمعها ضمن جانب معين لأنها تكون متقاربة، فمن علاقة الطفل بالغة والقراءة والتعليم وتنمية المهارات… إلى أثر أدب الأطفال ومطبوعات الأطفال والتلفزيون والألعاب، إلى أنواع التربية التي يتعرض لها بشكل مباشر، سواء أكانت تربية دينية أو قومية أو اجتماعية أو فكرية أو صحية أو جنسية، في البيت أو الشارع أو المدرسة..؟ (العرض هنا لإثارة الأسئلة أكثر من كونه إجابة لأسئلة ـ كما بدأنا ـ فإدراك أهميتها أكثر أهمية من تحديدها كعلل لها وصفة وعلاج معينين ..)
الطفل واللغة
تتجلى أهمية اللغة بالنسبة للطفل من خلال أهميتها في حياتنا كراشدين، فاللغة هي مفتاح تواصلنا عبر المكان والزمان، إنها ذاكرتنا الجماعية ومخزن مفاهيمنا وقيمنا ورؤانا وآفاقنا، ومصدر انتمائنا الاجتماعي والثقافي، هي التي تحفظ الخبرة عبر الأجيال، من الماضي عبر الحاضر إلى المستقبل، ويكتسب الفرد باكتسابها معظم ما يجمع شخصيته مع مجتمعه، وهي ذات تأثير كبير على حياة الفرد منذ نشأته، بما تشكله من حوافز لقدراته العقلية التي تنعكس على مجمل جوانب شخصيته، وبالتالي تنعكس على حياته على امتدادها، وبقدر تمكنه منها، بقدر ما يكون قادرا على التواصل مع المحيط، وطرح تصوراته، والإفصاح عن حاجاته ورغباته، وتعليل وتفسير مواقفه وآرائه، إضافة إلى استقبال هذه الأمور مع الآخرين، وكلما تمكن الفرد منها في عمر أصغر، كلما كان أكثر تميزا ونجاحا في حياته، وأكثر قدرة على التكيف والتفاهم والإقناع، وكلما تأخر في اكتسابها، كلما انعكس الأمر عليه سلبا، فيكون أقل قدرة ونجاحا، وهو بأسئلته وملاحظاته وإجاباته وتتبعه السمعي البصري (لاحقا) يكتسب معظم الجوانب الثقافية التي تكون شخصيته، إذ أننا ـ كبشر ـ لا نستطيع أن نفكر في شيء لا تسمح به كفاءتنا اللغوية، كما أننا لا نستطيع التفكير فيه فنحن محكومون إلى مدى معين في أفكارنا وأفعالنا باللغة التي نعرفها. اللغة بطبيعتها ونوع تراكيبها ودلالاتها تدل على الفرد وثقافته ونوع التربية التي خضع لها، وكذلك تدل على المجتمع ومفاهيمه وقيمه، فالكاتب أو الممثل يتقمص دور شخصية ما؛ فإنه يكون حريصا على تمثل لغة هذه الشخصية في مستواها ومجالها الاجتماعي، وكلما أفلح في هذا التمثل كلما كان أكثر إقناعا وصدقا..
واللغة التي يكتسبها الطفل لن تكون حيادية، إنما توجهه وتزوده بالمفاهيم السائدة وطرق التفكير المعتمدة سواء أكان هذا الاعتماد مقصودا أم عفويا.. هذا يعني أن الطفل يتأثر باللغة وكذلك معارفه تؤثر في لغته، وهذا التأثير المتبادل بين المعرفة واللغة أمر في غاية الأهمية، ويؤكد أن تكون أهمية اللغة بمفرداتها وتراكيبها ومفاهيمها سليمة لتكون التربية سليمة، وكذلك يؤكد أن سلامة التربية تعني أن الطفل يكتسب لغة سليمة.
في الواقع العربي الذي نحن جزء منه، تشكل اللغة أزمة حقيقية للتربية، وهذه الأزمة غير عائدة للغة العربية وطبيعتها، وإنما تعود إلى طبيعة تعامل الفكر العربي (التربوي خاصة) مع اللغة، إضافة إلى ما يشكله الواقع من عقبات في وجه هذه اللغة، ويمكننا إجمال هذه الأزمات في النقاط التالية:
1. اللغة الفصحى والعامية: الطفل منذ نشأته يكتسب لغة ويعايشها بشكل دائم ويبني تصوراته من فهم للوجود وانتمائه للجماعة، ثم يفاجأ أن لغة أخرى تزاحم لغته هذه، وإن كان يحس أحيانا بما يربطهما، إلا أن اللغتين تبدوان متناقضتين أو مختلفتين كل الاختلاف أحيانا، مثال: (ذهب الطفل إلى والدته الجالسة قرب النافذة .. ) ◄ راح الولد لعند أمو القاعدة جنب الشباك.. في العامية المصرية ◄ راح الواد لعند مامته الآعدة كنب الشباك.. وفي عامية دول الخليج ◄ راح العيل عند أمه الكاعدة حد الشباج..إلخ . هذه الأمثلة توضح مدى غرابة الفصحى على الطفل، فإما أن نلجأ إلى تعليمه إياها على أنها لغة ثانية أو نحاول تدارك الفصحى وإشاعتها بدلا من العامية.. ولا نؤكد أن العامية والفصحى لغة واحدة، فالطفل لن يكون مقتنعا بذلك ..
2. الاصطلاح الأعجمي الحديث: مصطلحات كثيرة ذات مصادر غريبة، دخلت وما تزال تدخل في لغتنا اليومية، الفصحى والعامية في آن واحد سواء كنا نتحدث أو نقرأ. وتشكل هذه المصطلحات أزمة حقيقية تدعو للحيرة تفقد لغتنا بريقها وتشكل نوعا من التبعية الثقافية، وغالبا ما تكون غير معبرة عن لغتنا ودلالاتها المتعددة، ومن أمثلة ذلك: (بيولوجيا : علم الحياة ـ بسكليت: الدراجة ـ بسكوت ـ جاتوه ـ تكسي ـ آيس كريم ـ مايكروفون ـ كمبيوتر ـ ديجيتال…إلخ) كلمات كثيرة لا يمكن حصرها واستبعادها ما لم يكن لها بديل مقنع ومعقول تتبناه مختلف الأطراف المساهمة في تربية الطفل وتشكيل ثقافته..
3. البنية اللا علمية، والخرافة: اللغة ليست مجرد تراكيب ومفردات ميتة، وإنما هي كائن حي، وحياتها في المعاني والمفاهيم التي ننقلها من جيل لآخر، وكذلك في تكيفها وقدرتها على التواصل عبر الزمان، لذلك فإنها بحد ذاتها بحاجة إلى تربية مستمرة، وبمعنى آخر بحاجة إلى تهذيب وتشذيب إضافة إلى تطوير بما يواكب العلم والمعرفة والعصر. فإذا كانت اللغة تحمل مفاهيم غير علمية، فإنها ستكون عقبة في طريق المعرفة الصحيحة والإدراك الموضوعي والعلمي للوجود! مثال في قولنا : (أشرقت الشمس) عندما ندقق فيه نجد أنه خطأ علمي، ولكي نكون أكثر دقة ربما يجب أن نقول: (أشرقنا على الشمس)، فلا بد من الاهتمام بهذا الأمر بمسؤولية ووعي لكي ننشئ الأطفال نشأة لغوية زاخرة بالعلوم والمعارف ضمن تراكيب وأساليب بعيدة عن مفاهيم الخرافة وعن العاطفية السلبية والانفعالات، وقريبة من العلم والمنطق .
4. تطوير اللغة: اللغة العربية في رسمها الإملائي تطورت وخضعت لتبدلات وتغيرات وإضافات كثيرة، أوصلتنا إلى نوع من التوازن والدقة . لكن هذا الأمر استمر إلى حد معين.. ونحن الآن نجد أنفسنا في ظل رفض غير عقلاني لتحسين هذه المبادئ والقواعد كيف نتقبل التحسينات التي تمت عبر القرون الخوالي ونرفض أي تحسين في عصرنا الحالي ؟! إنه أمر في غاية الغرابة.. ذلك أن دواعي التحسين الآن أكثر من أي وقت مضى.
الطفل والقراءة
من المعروف أن اللغة المنطوقة تسبق دائما اللغة المكتوبة وتكون أساسا لها. وما لم يدرك الطفل معاني ما في الكتب من كلام مطبوع، وما لم يكن متشوقا إلى الكشف عما فيها من أفكار، فلن يكون عنده (المسوغ) الذي يدعوه إلى أن يتعلم قراءتها.. هنا يكمن قيمة الكتاب وثمنه وقيمة العلم واحترامه، فالقراءة استجابة لرغبة الطفل في أن يكتشف المعرفة بنفسه، إذ أنها بوابته الشخصية إلى المعرفة، ليتفاعل معها وينتقي منها ويربطها بما لديه أو بما تربط به في مجتمعه وليستقي منها ما يحتاجه.. أو بمعنى آخر ليقرأها !.◄متى يتعلم الطفل القراءة ؟؟ هناك اتجاهان. الأول يقول : إن الطفل يجب أن يأخذ وقتا طويلا قبل أن نقحمه في مجال تعلم القراءة وتعاطيها بدعوى إرهاق كاهل الطفل بهذه الأمور مبكرا يجعله يمل منها بسرعة، وكذلك يؤثر في أوجه نموه الأخرى سلبا!. وآخر يقول: إن لم يتعلم الطفل القراءة مبكرا فإنه سوف يفقد فرصته الأثمن في الحياة، وإن السن المناسبة لتعلمه القراءة هي قبل الرابعة، وإذا تمكن منها فإنه يكون مميزا وإن تأخر فلن تعوضه كل العلوم والمعارف التي يحصل عليها خسارته من جراء تأخير تعليمه القراءة.
إن طفل اليوم أصبح أكثر تميزا من طفل الأمس، ولعل هذا عائد إلى العملية التربوية التي أصبحت أكثر قربا من الاستمتاع والإثارة، وتطور الوسائل المتنوعة في تعليم الطفل المرتبطة باللعب والتشويق والإثارة المدهشة..
◄من مشكلات القراءة التي تواجه الأطفال ما يتعلق بالرسم القرآني والإملاء العربي. فالرسم القرآني ترسم فيه بعض الكلمات رسما لا يوافق لفظها مثل: (الزكوة، الصلوة، السموت، الرحمن…إلخ) إن استسلم الطفل لاختلافها فتثير في نفسه إشكالية.. هل هناك ضرورة للحفاظ على هذا الرسم؟؟ إذ أن القرآن الكريم أنزل لفظا ولم ينزل كتابة.. إذن ما الذي يمنع كتابة القرآن وفق قواعد الإملاء الحديثة طالما أن اللفظ محفوظ ومصان؟! ولماذا نصر على عدم وضع إشارات الترقيم (النقط، الفاصلة، الواصلة…إلخ) مع أنها ذات فائدة كبيرة لتيسيرها سهولة القراءة والفهم؟! وثمت مشكلات عديدة في الإملاء يختلف عنها بلاد عربية دون أخرى، خاصة فيما يخص أحكام الهمزة والأحرف المزيدة والمحذوفة رسما والثابتة نطقا…إلخ . إنها مشكلات حقيقية مهما تغافلنا عنها، فهي تحتاج منا إلى أكثر من وقفة تأمل وإلى جهود حقيقية وفاعلة من أهل الاختصاص. يتبع في الحلقة القادمة◄