منتجات الفقر ليس من السهل أن تباشر الكتابة عندما لا تجد أمامك، وعندما لا تحيط بك سوى معاني الفقر .. بل هي ليست معاني ولكنها حياة تعذبك بشروطها القاسية وعناءً متصلا تعيشه مكرها .. يزداد احساسك به عندما تحاول التخفف منه فتلخصه في كلمات تقرأها لترى فيها عذابك مرة أخرى
الكتابة عن الفقر والقهر هي ، أحيانا ، احساس مضاعف بالاحباط والخيبة يهرب منه البعض إما إلى البكاء وإما إلى التسول ، وهو شكل من أشكال الخطابة ،وإما إلى السرقة وهي شكل بسيط من أشكال التمرد والثورة .
هنالك إذن ثلاث ملامح ينتجها الفقر وهي البكاء والخطابة والتمرد .. ومن الخطأ عند تفرس هذه الملامح التاريخية في حياة الشعب الفلسطيني استدعاء الصعاليك من أرشيف البادية للمقارنة و اكتشاف أوجه التشابه بينهما ،فهي كثيرة حتى لو غيرت القبائل المعاصرة أشكال وألوان عباءاتها القديمة .. ومن الخطأ كذلك في هذا التفرس استخدام عدسات المنفلوطي حتى لو شوه الحزن والأسى كل الملامح .
مسألة الفقر والتسول ليست مسألة خاصة بمجموعة قليلة أو بأفراد معدودين يمكن حصرهم وعلاجهم طبيا أو أدبيا .
فالبكاء مثلا ليس حالة عابرة في حياة فرد منا يودع راحلا عزيزا إلى الآخرة أو صديقا أو إبنا عند بوابة السجن، إنما هو تعبير عميق عن حالة حزن تتصل فينا جميعا ، منذ أكثر من نصف قرن ، بالوطن المسروق والأملاك المصادرة والحياة المشتتة والاحتياجات الانسانية المفقودة والمؤودة ، بالقتل المتواصل وبوقائع حياتية جديدة معقدة بالحصار والمصادرة والتهويد والتدخل حتى في طقوس دفن الموتى !!
فمن منا الذي اختار حزنه ؟ وهل يستطيع أحدنا أن يختصر هذه الحالة من الحزن في كلمات مفهومة ؟ بل أن قطرة دمع واحدة من عين أم قتلوا طفلها لتعبر ، أبلغ من كل اللغات، عن حزن اكثر صدقا من كل مظاهر الصلابة المفتعلة .. ولكن المؤسف هو اننا لا نعترف بالبكاء كمنتج تاريخي نتداوله يوميا وسرا في الغالب .. وإنما نمارس الخداع بحق ذواتنا فنستدعي ضددها قيما بائدة تحارب بكاءنا وتحاكمه على أنه سلوك لا يليق بنا " الرجال خاصة " الأمر الذي يدفعنا بالتالي إلى ممارسة كل استبداد الأنظمة الدكتاتورية بحق هذه الذوات لنحبس فيها دموعا تتشوق للانطلاق والحرية.
إن هذه الازدواجية في التعامل مع البكاء تكرس في حياة أصحابها نمطية موازية في التعامل مع كل الأشياء الأخرى ، أو هي ، بشكل من الأشكال، تتسبب في حالة فصام مرضية بين ما نتمناه سرا ونقمعه ونحاربه جهرا
لهذا لا ينبغي أن ننظر إلى البكاء " باعتباره مجرد صوت مبهم وغير معين في كلمات مفهومة" على أنه عنوان الفشل أو العجز عن اتخاذ الموقف الواضح والقرار المفهوم !! بل هو في تقديري التعبير الوحيد الواضح عن حالة او حاجة إنسانية هي أكبر من قدرة الكلام على ترجمتها.. فلو كان باستطاعتنا ، مثلا ، أن نترجم حالة الحزن أو الخوف أو الألم أو الفرح إلى كلمات لاقتصر البكاء على الأبكم والرضيع فقط .
كما ينبغي أن ننتبه هنا إلى أننا وإن كنا قادرون ،من دون الكائنات الأخرى، على أن نضبط وأن نتحكم في العلاقة بين حزننا العميق وقسماتنا الظاهرة فلسنا قادرون أبدا، في لحظات الوحدة والتأمل ، على منع تسرب هذا الحزن إلى تلك القسمات.. فهل نستطيع ان نحيا بعيدا عن أجسادنا ؟
لذا لا يجب أن نظل أسرى لعادات ومواريث ثقافية متخلفة تشوه التوافق الصحي في حياتنا بين الاحساس والتعبير عنه..فلماذا يرهقنا الحزن ونضحك ؟ على أنفسنا فنخدعها؟! ولولا خوفي أن أجرح حزنكم المقيم بضحكة عابرة لأعدت عليكم اقتراحا كنت لخصته في مقالة قديمة عنوانها " لنتفق على يوم للبكاء" نختار له ميدانا يتوافد إليه، في الليل ، كل الذين يسطو على حزنهم في النهار طغيان العادة وبطش الخداع..
لا بأس.. لكني أدعوكم بعد هذا إلى النظر في الملمح الثاني والأرقى وهو "التسول " وهو شكل من اشكال الخطابة يتميز أصحابه بالجرأة للانتقال بفقرهم من حالة البكاء الذي "لا يعفي من الشقاء " وما يحيط بها من أسباب الخجل والتردد إلى حالة اخرى من التحدي المباشر لكل تلك الأسباب المفتعلة، والتعبير الصريح والمفهوم عن حاجاتهم الحياتية العميقة.
لا أريد أن أدرج في خانة التسول كل محاولاتنا "الوطنية " لطرق أبواب العالم بحثا عن المساعدة لاشباع بعض تلك الحاجات بعد ان تَّعثر الحصول عليها محليا واشباعها وطنيا.. فهذه محاولات للتسول يمكن حصرها في شكل آخر للخطابة ذات طابع سياسي تتمحور مفردات أصحابها حول أنشطة وفعاليات سلطوية وحزبية تنظيمية وحكومية تقتضيهم ممارستها بعض التميز إن كان بالزي الرسمي مثلا أو عشاء العمل أو الحرس الخاص أو السيارة المصفحة او المطار .. وهي مظاهر معقدة متعالية لا علاقة لها بخطاب التسول البسيط الصريح الذي له أصحابه البسطاء والمكشوفين .
لا يمكن القول هنا بأن المتسول البسيط المكشوف والجرئ قد رفض باختياره الحر أن يظل أسيرا لازدواجية التعبير السائدة من حوله هذه الازدواجية التي تحارب البكاء جهارا بينما تتحسر عليه خفية .. لكنه قد أكره على ان يتحرر من هذه الازدواجية بعد أن وجد نفسه مضغوطا تحت أثقال احتياجات هي من الضرورة الحياتية الملحة بحيث صار تحقيقها أمرا يساوي الحفاظ على الحياة نفسها العضوية عارية من أية مضامين أخلاقية او قيمية .. فعندما يصبح الهم المباشر هو الحفاظ على الحياة لا يظل حينها أي اعتبار لقيم الترفع والتكبر والافتعال .
إن المتسول هو النموذج الوحيد الذي يلخص ويعكس ويكشف آثار الخلل الاجتماعي أو الحضاري أو السياسي كما يبين بوضوح إلى أي حد يمكن لذلك الخلل أن يجرد الأنسان من كل أزيائه الحضارية ويدفعه احيانا في اتجاه بدائي معتم لا يرى فيه الكون إلا عبر كسرة خبز .. وقد تقوده إلى عتمة عبثية لا يرى الكون عبرها غير أشباح متحركة .. وإذا أصر على أن يتعلق بهذه الحياة العبثية والشبحية فإن عليه حينها أن يعثر على تلك الكسرة بأي ثمن مهما كان.. السرقة او القتل او الرحيل أو الحقد أو حتى العمالة للعدو الأجنبي ؟؟ ولا بد أن كبارنا، الأحياء منهم ، يذكرون اليوم كيف تدافعت أجسادهم " أبان النكبة " ذكورا وإناثا " دون أي اعتبار لقيم الحلال والحرام ودون أي اعتبار لقيم الفصل بين الجنسين أمام بوابات الغوث بحثا عن تلك الكسرة ... إنها الحياة والتعلق الغريزي بها حيث لا يجدي البكاء من هنا كان التسول كما قلنا شكلا من أشكال الخطابة الأكثر رقيا من التدافع كالحيوانات بالأكتاف والأرداف .
خطاب المتسول مفرداته بسيطة وصريحة .. كسرة الخبز .. لا يريد المتسول أن يصبح طيارا أو وزيرا ولا عقيدا ولا عميدا ولا موظفا بدرجة عليا على كثرة الوظائف والدرجات .. يريد فقط أن يحفظ حقه في الحياة وهو لا يسوق هذا الحق ببراهين علمية ولا فلسفية بينما يلقي خطابه في الشارع مادا ذراعه على أمل أن يسقط أحدهم في كفها حسنة .. ولعل آخر حجة يدفع بها عن نفسه أذى أولئك المتعالين المتخمين بل وحتى غيرة بعض الجباء وحسدهم هي " لله " إنه صريح إلى درجة تأكيد ضياعه التام الذي لا ينفع في انقاذه منه لا البكاء المكتوم ولا العويل المكلوم ولا الكلام المفهوم .. فهو عندما يخاطب الناس فذلك ليس لحاجة يمكنها أن تنقذ ضياعه الذي لا شفاء منه ولكنه يطلب صدقة ليست له بل " لله " وعائدها من الثواب ليس له بل " للمحسنين ".. المتسول هنا كإنسان هو في حالة غياب كامل وإن حضوره أشبه شئ بشارة المرور في الشارع .. إن حياته قد تقلصت ، رغما عنه ، إلى حدود لا يمكنه معها غير أن يعيش أشبه بالتمثال وكل الكلمات القليلة التي تصدر عنه أو يتضمنها خطابه البسيط إنما هي صدى لهذه الحياة القاسية الشحيحة التي صادر الخلل الاجتماعي أو الحضاري أو السياسي كل أبعاد وجودها الإنساني السوي القويم .
وهو خطاب يدعونا لمقاومة ذلك الخلل ومعالجة رواسب ومخلفات النكبة وأنا أدعوكم أيها القراء لأن ننخرط معا وجميعا في رؤية جديدة لا ترى في المتسولين ثيابهم الرثة بل أعماقهم البريئة الحزينة ولا ترى في خطابهم مذلة ومهانة بل تهمة كاملة الأركان ضد كل الذين اعتدوا على حق الحياة وصدق الله العظيم ( وأما السائل فلا تنهر )
احمد بارود
الكتابة عن الفقر والقهر هي ، أحيانا ، احساس مضاعف بالاحباط والخيبة يهرب منه البعض إما إلى البكاء وإما إلى التسول ، وهو شكل من أشكال الخطابة ،وإما إلى السرقة وهي شكل بسيط من أشكال التمرد والثورة .
هنالك إذن ثلاث ملامح ينتجها الفقر وهي البكاء والخطابة والتمرد .. ومن الخطأ عند تفرس هذه الملامح التاريخية في حياة الشعب الفلسطيني استدعاء الصعاليك من أرشيف البادية للمقارنة و اكتشاف أوجه التشابه بينهما ،فهي كثيرة حتى لو غيرت القبائل المعاصرة أشكال وألوان عباءاتها القديمة .. ومن الخطأ كذلك في هذا التفرس استخدام عدسات المنفلوطي حتى لو شوه الحزن والأسى كل الملامح .
مسألة الفقر والتسول ليست مسألة خاصة بمجموعة قليلة أو بأفراد معدودين يمكن حصرهم وعلاجهم طبيا أو أدبيا .
فالبكاء مثلا ليس حالة عابرة في حياة فرد منا يودع راحلا عزيزا إلى الآخرة أو صديقا أو إبنا عند بوابة السجن، إنما هو تعبير عميق عن حالة حزن تتصل فينا جميعا ، منذ أكثر من نصف قرن ، بالوطن المسروق والأملاك المصادرة والحياة المشتتة والاحتياجات الانسانية المفقودة والمؤودة ، بالقتل المتواصل وبوقائع حياتية جديدة معقدة بالحصار والمصادرة والتهويد والتدخل حتى في طقوس دفن الموتى !!
فمن منا الذي اختار حزنه ؟ وهل يستطيع أحدنا أن يختصر هذه الحالة من الحزن في كلمات مفهومة ؟ بل أن قطرة دمع واحدة من عين أم قتلوا طفلها لتعبر ، أبلغ من كل اللغات، عن حزن اكثر صدقا من كل مظاهر الصلابة المفتعلة .. ولكن المؤسف هو اننا لا نعترف بالبكاء كمنتج تاريخي نتداوله يوميا وسرا في الغالب .. وإنما نمارس الخداع بحق ذواتنا فنستدعي ضددها قيما بائدة تحارب بكاءنا وتحاكمه على أنه سلوك لا يليق بنا " الرجال خاصة " الأمر الذي يدفعنا بالتالي إلى ممارسة كل استبداد الأنظمة الدكتاتورية بحق هذه الذوات لنحبس فيها دموعا تتشوق للانطلاق والحرية.
إن هذه الازدواجية في التعامل مع البكاء تكرس في حياة أصحابها نمطية موازية في التعامل مع كل الأشياء الأخرى ، أو هي ، بشكل من الأشكال، تتسبب في حالة فصام مرضية بين ما نتمناه سرا ونقمعه ونحاربه جهرا
لهذا لا ينبغي أن ننظر إلى البكاء " باعتباره مجرد صوت مبهم وغير معين في كلمات مفهومة" على أنه عنوان الفشل أو العجز عن اتخاذ الموقف الواضح والقرار المفهوم !! بل هو في تقديري التعبير الوحيد الواضح عن حالة او حاجة إنسانية هي أكبر من قدرة الكلام على ترجمتها.. فلو كان باستطاعتنا ، مثلا ، أن نترجم حالة الحزن أو الخوف أو الألم أو الفرح إلى كلمات لاقتصر البكاء على الأبكم والرضيع فقط .
كما ينبغي أن ننتبه هنا إلى أننا وإن كنا قادرون ،من دون الكائنات الأخرى، على أن نضبط وأن نتحكم في العلاقة بين حزننا العميق وقسماتنا الظاهرة فلسنا قادرون أبدا، في لحظات الوحدة والتأمل ، على منع تسرب هذا الحزن إلى تلك القسمات.. فهل نستطيع ان نحيا بعيدا عن أجسادنا ؟
لذا لا يجب أن نظل أسرى لعادات ومواريث ثقافية متخلفة تشوه التوافق الصحي في حياتنا بين الاحساس والتعبير عنه..فلماذا يرهقنا الحزن ونضحك ؟ على أنفسنا فنخدعها؟! ولولا خوفي أن أجرح حزنكم المقيم بضحكة عابرة لأعدت عليكم اقتراحا كنت لخصته في مقالة قديمة عنوانها " لنتفق على يوم للبكاء" نختار له ميدانا يتوافد إليه، في الليل ، كل الذين يسطو على حزنهم في النهار طغيان العادة وبطش الخداع..
لا بأس.. لكني أدعوكم بعد هذا إلى النظر في الملمح الثاني والأرقى وهو "التسول " وهو شكل من اشكال الخطابة يتميز أصحابه بالجرأة للانتقال بفقرهم من حالة البكاء الذي "لا يعفي من الشقاء " وما يحيط بها من أسباب الخجل والتردد إلى حالة اخرى من التحدي المباشر لكل تلك الأسباب المفتعلة، والتعبير الصريح والمفهوم عن حاجاتهم الحياتية العميقة.
لا أريد أن أدرج في خانة التسول كل محاولاتنا "الوطنية " لطرق أبواب العالم بحثا عن المساعدة لاشباع بعض تلك الحاجات بعد ان تَّعثر الحصول عليها محليا واشباعها وطنيا.. فهذه محاولات للتسول يمكن حصرها في شكل آخر للخطابة ذات طابع سياسي تتمحور مفردات أصحابها حول أنشطة وفعاليات سلطوية وحزبية تنظيمية وحكومية تقتضيهم ممارستها بعض التميز إن كان بالزي الرسمي مثلا أو عشاء العمل أو الحرس الخاص أو السيارة المصفحة او المطار .. وهي مظاهر معقدة متعالية لا علاقة لها بخطاب التسول البسيط الصريح الذي له أصحابه البسطاء والمكشوفين .
لا يمكن القول هنا بأن المتسول البسيط المكشوف والجرئ قد رفض باختياره الحر أن يظل أسيرا لازدواجية التعبير السائدة من حوله هذه الازدواجية التي تحارب البكاء جهارا بينما تتحسر عليه خفية .. لكنه قد أكره على ان يتحرر من هذه الازدواجية بعد أن وجد نفسه مضغوطا تحت أثقال احتياجات هي من الضرورة الحياتية الملحة بحيث صار تحقيقها أمرا يساوي الحفاظ على الحياة نفسها العضوية عارية من أية مضامين أخلاقية او قيمية .. فعندما يصبح الهم المباشر هو الحفاظ على الحياة لا يظل حينها أي اعتبار لقيم الترفع والتكبر والافتعال .
إن المتسول هو النموذج الوحيد الذي يلخص ويعكس ويكشف آثار الخلل الاجتماعي أو الحضاري أو السياسي كما يبين بوضوح إلى أي حد يمكن لذلك الخلل أن يجرد الأنسان من كل أزيائه الحضارية ويدفعه احيانا في اتجاه بدائي معتم لا يرى فيه الكون إلا عبر كسرة خبز .. وقد تقوده إلى عتمة عبثية لا يرى الكون عبرها غير أشباح متحركة .. وإذا أصر على أن يتعلق بهذه الحياة العبثية والشبحية فإن عليه حينها أن يعثر على تلك الكسرة بأي ثمن مهما كان.. السرقة او القتل او الرحيل أو الحقد أو حتى العمالة للعدو الأجنبي ؟؟ ولا بد أن كبارنا، الأحياء منهم ، يذكرون اليوم كيف تدافعت أجسادهم " أبان النكبة " ذكورا وإناثا " دون أي اعتبار لقيم الحلال والحرام ودون أي اعتبار لقيم الفصل بين الجنسين أمام بوابات الغوث بحثا عن تلك الكسرة ... إنها الحياة والتعلق الغريزي بها حيث لا يجدي البكاء من هنا كان التسول كما قلنا شكلا من أشكال الخطابة الأكثر رقيا من التدافع كالحيوانات بالأكتاف والأرداف .
خطاب المتسول مفرداته بسيطة وصريحة .. كسرة الخبز .. لا يريد المتسول أن يصبح طيارا أو وزيرا ولا عقيدا ولا عميدا ولا موظفا بدرجة عليا على كثرة الوظائف والدرجات .. يريد فقط أن يحفظ حقه في الحياة وهو لا يسوق هذا الحق ببراهين علمية ولا فلسفية بينما يلقي خطابه في الشارع مادا ذراعه على أمل أن يسقط أحدهم في كفها حسنة .. ولعل آخر حجة يدفع بها عن نفسه أذى أولئك المتعالين المتخمين بل وحتى غيرة بعض الجباء وحسدهم هي " لله " إنه صريح إلى درجة تأكيد ضياعه التام الذي لا ينفع في انقاذه منه لا البكاء المكتوم ولا العويل المكلوم ولا الكلام المفهوم .. فهو عندما يخاطب الناس فذلك ليس لحاجة يمكنها أن تنقذ ضياعه الذي لا شفاء منه ولكنه يطلب صدقة ليست له بل " لله " وعائدها من الثواب ليس له بل " للمحسنين ".. المتسول هنا كإنسان هو في حالة غياب كامل وإن حضوره أشبه شئ بشارة المرور في الشارع .. إن حياته قد تقلصت ، رغما عنه ، إلى حدود لا يمكنه معها غير أن يعيش أشبه بالتمثال وكل الكلمات القليلة التي تصدر عنه أو يتضمنها خطابه البسيط إنما هي صدى لهذه الحياة القاسية الشحيحة التي صادر الخلل الاجتماعي أو الحضاري أو السياسي كل أبعاد وجودها الإنساني السوي القويم .
وهو خطاب يدعونا لمقاومة ذلك الخلل ومعالجة رواسب ومخلفات النكبة وأنا أدعوكم أيها القراء لأن ننخرط معا وجميعا في رؤية جديدة لا ترى في المتسولين ثيابهم الرثة بل أعماقهم البريئة الحزينة ولا ترى في خطابهم مذلة ومهانة بل تهمة كاملة الأركان ضد كل الذين اعتدوا على حق الحياة وصدق الله العظيم ( وأما السائل فلا تنهر )
احمد بارود