محللنا السياسي...
سهيل كيوان
يعيدني هذا المطر الغزير إلى ليالي الدفء ولعب الورق ودخان التبغ الكثيف ينفثه والدي وأصدقاؤه في فضاء البيت بدون أية ملاحظات عن أضرار التدخين، بل عن فوائده الجمّة وعلى رأسها إراحة الأعصاب وامتصاص الغضب، إضافة إلى حالة الصبابة والعيقنة، ومقولات تقلل من هيبة الرجل بدون سيجارة، وأخرى تجعلها إضافة نوعية لنكهة القهوة! وبعد كل هذه المدائح للتبغ على مسامعنا نحن الأطفال يعاقبوننا إذا بحثنا عن القراعيم لفرطها وإعادة لفها وتدخينها!
تجري الوديان ويصبح السهل بحيرة والبيوت جزراً وسط الحواكير، والشتاء هو فصل الحكايا حول الموقد والقمح المحمّص!
كان أبو حسن يزورنا يومياً وهو واحد من عدد كبير من المحللين السياسيين والعسكريين، وقبل أن يدخل البيت وقبل طرح السلام.. يصيح وهو ما زال في صحن الدار......هل سمعتم هيكل!
- تفضل....يرد والدي....
ينضم إلى المجموعة ثم يواصلون تحليلاتهم للمقالات والخطابات وآخر الأخبار والزيارات الرسمية والجهود الدبلوماسية والأحداث العسكرية على خلـــــفية صــــوت (فايدة كامل) و(وطني حبيبي) و(أموت أعيــــش ميهمنيـــش)..وغيرها!
كان أبو حسن قبل الحوار، خلاله وبعده يردد بقوة وثقة...هذا كله كلام فارغ...باختصار..لا غنى عن العصا، ولكن لسبب ما كان الحضور يبتسمون رغم قناعتهم بأقواله، والسبب هو أنه يحمرق ولا يتحدث إلا بغضب وبلغة التشليخ والخفش والرفش والعصي الغليظة والبلطات والهجوم الكاسح!فإذا ما لاحظ ابتسامات القوم أثناء حديثه ازداد انفعالاً ووقف صائحاً...الله نفسه لم يكتف بإغراء الناس بالجنة، فهو يهدد ويتوعد الناس بعقاب شديد، أقسم بالله العظيم أنه لولا خوف الناس من جبروته وقوته وعذابه لما عبدوه أصلاً!
تجمعت مياه الأمطار في حاكورة أبي الحسن، وبدأ الربيع يتحسس طريقه بأخضره، وحُلبت آخر الغيمات، ولكن المياه بقيت راكدة في حاكورته، وبدأت طلائع الضفادع بالظهور، والبعوض يتوعد، وعليه الإسراع بالتخلص من هذه المياه، وما من طريقة سوى أن يقنّي لها!
دس طرف قمبازه تحت حزامه وحمل معوله وبدأ بحفر قناة تنقل المياه الراكدة من أرضه الى أرض جاره أبي ماهل المعروف بضعفه ورقته ولينه حتى استضعفه الناس، وكما هو متوقع أتى أبو ماهل وسأله مستنكراً...ما الذي تفعله يا جار!
ما تراه عينك..
وكيف ترضى بالتخلص من مشكلتك على حساب توريط جارك بها..أليس لجارك حق عليك...!
فرد عليه أبو حسن قائلا: معك الحق يا جاري ولكن حسن الجوار لا يكفي، أنت تعرف أنا عنيد ورأسي يابس، وكلامك الحلو تلزمه بعض القوة، ولن أتوقف عن حفر القناة إلا إذا رأيتُ دمي نازفا من رأسي..
ابتسم ابو ماهل وقال: أعوذ بالله .....دمّ ..!نحن جيران يا أبو حسن..لا أريد أن أخرب الجيرة بيننا..أوقف العمل وتعال نتفاهم...
- على ماذا سنتفاهم يا مسكين! لو كنت قوياً لما أغراني الشيطان باستقوائك، كنت سأفكر مسبقاً بالعواقب..وكنت قلت لنفسي إن إيذاء الجار عيب، ولكنه طبع بني آدم الخبيث، وأنا بني آدم! وطالما أنك بهذه الحالة من الضعف، فأنا بصراحة سوف أستمر بالعمل، سأحل مشكلتي على حسابك..إلا إذا أرغمتني على غير ذلك...
راح أبو ماهل يتحدث بلطف كعادته- يا رجل..نحن جيران..تعال نتفاهم على حلّ مرضٍ لي ولك..
- يا جاري لا تحاول تخجيلي، أنا مقتنع تماما بأنك لو ملكت القوة لمنعتني عن هذا، بل أنا متأكد أنك كنت ستلقي قمامتك في أرضي، وما رجاؤك هذا إلا بسبب ضعفك وجبنك عن مواجهتي، ثم كيف سأعرف أنك تحترمني بالفعل ولست خائفاً مني!
لا حول ولا قوة إلا بالله.. يا أبو حسن وحّد الله واخز الشيطان....صحيح أنا مسالم ولكن لو أردت لاستنفرت أقربائي وسوف يؤذونك..
لو كنتَ متأكدا أن باستطاعتك تجنيدهم لاستنفرتهم، ولكنك تعرف أنهم لا يطيعونك وتخلوا عنك بسبــــب ضعفك ورقتك الزائدة وهوانك...الجميع مستوطي حيطك فلم لا أكون مثل الجميع..!
في هذه الأثناء بدأت المياه تتخذ مجراها إلى حاكورة أبي ماهل حتى وصلت باب بيته، أبو حسن مستمر بالحفر، وأبو ماهل يتحدث ويتوسل دون أن يلتفت هذا إليه!
وفجأة أخذت الحمية أبا ماهل فقال غاضباً: لماذا لا ترد! لقد زودتها...هذه ليست جيرة....
رفع أبو حسن رأسه ونظر الى جاره نظرة منتصر وقال له...والله إذا لم تصدني بالقوة ولم توقفني عند حدي فسوف أحضر غدا أكوام الزبالة وألقيها أمام بيتك!
غاب أبو ماهل لدقائق وعاد بيده عصا سنديان غليظة...تقدم بيد مرتجفة..رفع العصا وقال..يا رب تسامحني..وهوى بقوة على رأس أبي حسن فسُمع للضربة دوي قوي وما لبث أن ساح دم أبي حسن على حطته ثم فوق جبينه وعلى نحره وصدره وبلل قمبازه!
أطلت أم حسن فولولت وأرادت أن تصرخ وتستنفر أقرباء زوجها ولكن أبا الحسن قال لها بهدوء.. أدخلي يا حرمة الى البيت، هناك فوق الخزانة يوجد صحن فيه ملبس وزعيه على أطفال الحارة، الآن ثبتت صحة تحليلاتي السياسية! حتى هذا المسكين الذي يستهين به الجميع لم يتحمل الإهانة! قال هذا وهو يتحسّس الدم النازف من رأسه ثم ابتسم وقال...الآن يا جاري أتوقف عن حفر القناة بل سوف أسدّها تماماً، يعني قل لي ...بأي منطق أحل مشكلتي على حسابك! وكيف أسمح للمياه الآسنة أن تجري إلى أرضك!ألا يوجد حق للجار، يجب أن نفكر بطريقة أخرى، ولكن أهم من كل هذا...هل اقتنعت بتحليلاتي السياسية! هل اقتنعت أنه لا حقوق بلا عصا...
- والله معك الحق يا جاري...كل تحليلاتك صحيحة...ولكن سامحني لقد آذيتك...سيغضب أولادك عندما يرونك بهذه الحالة وربما عملوا لي مشكلة...
ولك إبق جامداً وتمسّك بموقفك، أنا الذي اعتديت عليك...وأستحق بلطة في نصّ راسي...
سهيل كيوان
يعيدني هذا المطر الغزير إلى ليالي الدفء ولعب الورق ودخان التبغ الكثيف ينفثه والدي وأصدقاؤه في فضاء البيت بدون أية ملاحظات عن أضرار التدخين، بل عن فوائده الجمّة وعلى رأسها إراحة الأعصاب وامتصاص الغضب، إضافة إلى حالة الصبابة والعيقنة، ومقولات تقلل من هيبة الرجل بدون سيجارة، وأخرى تجعلها إضافة نوعية لنكهة القهوة! وبعد كل هذه المدائح للتبغ على مسامعنا نحن الأطفال يعاقبوننا إذا بحثنا عن القراعيم لفرطها وإعادة لفها وتدخينها!
تجري الوديان ويصبح السهل بحيرة والبيوت جزراً وسط الحواكير، والشتاء هو فصل الحكايا حول الموقد والقمح المحمّص!
كان أبو حسن يزورنا يومياً وهو واحد من عدد كبير من المحللين السياسيين والعسكريين، وقبل أن يدخل البيت وقبل طرح السلام.. يصيح وهو ما زال في صحن الدار......هل سمعتم هيكل!
- تفضل....يرد والدي....
ينضم إلى المجموعة ثم يواصلون تحليلاتهم للمقالات والخطابات وآخر الأخبار والزيارات الرسمية والجهود الدبلوماسية والأحداث العسكرية على خلـــــفية صــــوت (فايدة كامل) و(وطني حبيبي) و(أموت أعيــــش ميهمنيـــش)..وغيرها!
كان أبو حسن قبل الحوار، خلاله وبعده يردد بقوة وثقة...هذا كله كلام فارغ...باختصار..لا غنى عن العصا، ولكن لسبب ما كان الحضور يبتسمون رغم قناعتهم بأقواله، والسبب هو أنه يحمرق ولا يتحدث إلا بغضب وبلغة التشليخ والخفش والرفش والعصي الغليظة والبلطات والهجوم الكاسح!فإذا ما لاحظ ابتسامات القوم أثناء حديثه ازداد انفعالاً ووقف صائحاً...الله نفسه لم يكتف بإغراء الناس بالجنة، فهو يهدد ويتوعد الناس بعقاب شديد، أقسم بالله العظيم أنه لولا خوف الناس من جبروته وقوته وعذابه لما عبدوه أصلاً!
تجمعت مياه الأمطار في حاكورة أبي الحسن، وبدأ الربيع يتحسس طريقه بأخضره، وحُلبت آخر الغيمات، ولكن المياه بقيت راكدة في حاكورته، وبدأت طلائع الضفادع بالظهور، والبعوض يتوعد، وعليه الإسراع بالتخلص من هذه المياه، وما من طريقة سوى أن يقنّي لها!
دس طرف قمبازه تحت حزامه وحمل معوله وبدأ بحفر قناة تنقل المياه الراكدة من أرضه الى أرض جاره أبي ماهل المعروف بضعفه ورقته ولينه حتى استضعفه الناس، وكما هو متوقع أتى أبو ماهل وسأله مستنكراً...ما الذي تفعله يا جار!
ما تراه عينك..
وكيف ترضى بالتخلص من مشكلتك على حساب توريط جارك بها..أليس لجارك حق عليك...!
فرد عليه أبو حسن قائلا: معك الحق يا جاري ولكن حسن الجوار لا يكفي، أنت تعرف أنا عنيد ورأسي يابس، وكلامك الحلو تلزمه بعض القوة، ولن أتوقف عن حفر القناة إلا إذا رأيتُ دمي نازفا من رأسي..
ابتسم ابو ماهل وقال: أعوذ بالله .....دمّ ..!نحن جيران يا أبو حسن..لا أريد أن أخرب الجيرة بيننا..أوقف العمل وتعال نتفاهم...
- على ماذا سنتفاهم يا مسكين! لو كنت قوياً لما أغراني الشيطان باستقوائك، كنت سأفكر مسبقاً بالعواقب..وكنت قلت لنفسي إن إيذاء الجار عيب، ولكنه طبع بني آدم الخبيث، وأنا بني آدم! وطالما أنك بهذه الحالة من الضعف، فأنا بصراحة سوف أستمر بالعمل، سأحل مشكلتي على حسابك..إلا إذا أرغمتني على غير ذلك...
راح أبو ماهل يتحدث بلطف كعادته- يا رجل..نحن جيران..تعال نتفاهم على حلّ مرضٍ لي ولك..
- يا جاري لا تحاول تخجيلي، أنا مقتنع تماما بأنك لو ملكت القوة لمنعتني عن هذا، بل أنا متأكد أنك كنت ستلقي قمامتك في أرضي، وما رجاؤك هذا إلا بسبب ضعفك وجبنك عن مواجهتي، ثم كيف سأعرف أنك تحترمني بالفعل ولست خائفاً مني!
لا حول ولا قوة إلا بالله.. يا أبو حسن وحّد الله واخز الشيطان....صحيح أنا مسالم ولكن لو أردت لاستنفرت أقربائي وسوف يؤذونك..
لو كنتَ متأكدا أن باستطاعتك تجنيدهم لاستنفرتهم، ولكنك تعرف أنهم لا يطيعونك وتخلوا عنك بسبــــب ضعفك ورقتك الزائدة وهوانك...الجميع مستوطي حيطك فلم لا أكون مثل الجميع..!
في هذه الأثناء بدأت المياه تتخذ مجراها إلى حاكورة أبي ماهل حتى وصلت باب بيته، أبو حسن مستمر بالحفر، وأبو ماهل يتحدث ويتوسل دون أن يلتفت هذا إليه!
وفجأة أخذت الحمية أبا ماهل فقال غاضباً: لماذا لا ترد! لقد زودتها...هذه ليست جيرة....
رفع أبو حسن رأسه ونظر الى جاره نظرة منتصر وقال له...والله إذا لم تصدني بالقوة ولم توقفني عند حدي فسوف أحضر غدا أكوام الزبالة وألقيها أمام بيتك!
غاب أبو ماهل لدقائق وعاد بيده عصا سنديان غليظة...تقدم بيد مرتجفة..رفع العصا وقال..يا رب تسامحني..وهوى بقوة على رأس أبي حسن فسُمع للضربة دوي قوي وما لبث أن ساح دم أبي حسن على حطته ثم فوق جبينه وعلى نحره وصدره وبلل قمبازه!
أطلت أم حسن فولولت وأرادت أن تصرخ وتستنفر أقرباء زوجها ولكن أبا الحسن قال لها بهدوء.. أدخلي يا حرمة الى البيت، هناك فوق الخزانة يوجد صحن فيه ملبس وزعيه على أطفال الحارة، الآن ثبتت صحة تحليلاتي السياسية! حتى هذا المسكين الذي يستهين به الجميع لم يتحمل الإهانة! قال هذا وهو يتحسّس الدم النازف من رأسه ثم ابتسم وقال...الآن يا جاري أتوقف عن حفر القناة بل سوف أسدّها تماماً، يعني قل لي ...بأي منطق أحل مشكلتي على حسابك! وكيف أسمح للمياه الآسنة أن تجري إلى أرضك!ألا يوجد حق للجار، يجب أن نفكر بطريقة أخرى، ولكن أهم من كل هذا...هل اقتنعت بتحليلاتي السياسية! هل اقتنعت أنه لا حقوق بلا عصا...
- والله معك الحق يا جاري...كل تحليلاتك صحيحة...ولكن سامحني لقد آذيتك...سيغضب أولادك عندما يرونك بهذه الحالة وربما عملوا لي مشكلة...
ولك إبق جامداً وتمسّك بموقفك، أنا الذي اعتديت عليك...وأستحق بلطة في نصّ راسي...