ذكر رجل أخاه المسلم بسوء عند إياس بن معاوية رضي الله عنه، فقال له إياس: " هل غزوت الهند؟. فقال الرجل: لا.قال: وهل غزوت السند؟ قال الرجل: لا . قال: وهل غزوت الترك؟ قال الرجل لا. فقال له إياس: عجبا كيف سلم منك الهند السند والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم.
إن مثل هذا يقع للكثير من الإعلاميين والكتاب والفنانين، الذين اشتغلوا بالكتابة في أمور، جعلتنا نعتقد أننا انتهينا من شبح البطالة، وقضينا على عار الجهل والأمية، وأن بلداننا قد استقامت وما عاد بها فساد إداري ولا زبونية ولا محسوبية ولا رشاوي. وأن وعي الجماهير بالواقع وصل مداه، وأن فلسطين الأسيرة تم تحريرها وهي الآن تنعم بالحرية على أرضها. وأن إسرائيل ألقيت في البحر ولم يعد لها وجود. وأن العراق الشقيق حقن دماءه وثأر للعرض والشرف وطرد الاحتلال من أراضيه، وحاكم الخونة الذين تاجروا بماضيه وحاضره.
فمن الحكمة والعلم الحديث عما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، ومن العقل والبصيرة اختيار المداخل الصحيحة لمعالجة قضايا العباد والبلاد. فليس كل حديث ذا جدوى وليس كل ما ننبس به هو ذو بال وقيمة.
إن المخرج السينمائي عبد القادر لقطع عندما قام بإخراج فيلمه "حب في الدار البيضاء" و فيلم " بيضاوة" إلى أن وصل إلى "الباب المسدود"، كان يظن بأنه يعالج قضايا تعد من الطابوهات، ولا أحد يمتلك الجرأة على الخوض فيها. فعالج قضية الفساد بالفساد؟ و حارب الدعارة بالدعارة؟. ولم يجد السيد لقطع إلا مثل هذه السيناريوهات كي يعالج بها قضايا بلده وأمته. وهو يعلم بأن الكثير من القضايا التي تستحق تسليط الأضواء لا تزال بكرا لم تخض فيها السينما بعد، وهي من القضايا الملحة التي تعبر عن معاناة حقيقية تعيشها البلاد العربية والإسلامية ويعيشها العباد.
إننا نشعر، أحيانا، بأن بعض الأقلام يحلو لها التحليق خارج السرب أو هي تنهج نهج" خالف تعرف" لأنها تتلهف لتصير اسما بارزا تتلقفه بالحديث والذكر الصحافة الوطنية الدولية. ولأنهم رأوا البعض ممن طعنوا الأمة في الظهر بمسهم بمقدساتها، قد تم تكريمه من طرف دول عدوة تريد لبلادنا العربية العيش في الفتن وبذلك تكون قد غررت بالأقلام وفتحت الباب في وجه الكتاب الخارجين عن الصواب.
والبعض يستهويه التشهير بالخصوم واقتناص الفرص للنيل منهم والتعبئة لضرب شعبيتهم خوفا من اكتساح محقق أو انتصار ديمقراطي مضمون.
ولحد الآن لم يع أصحاب الأقلام أنه ليس كل ما يعرف يقال. فالكتابة التي تسير في خط تغييري وتؤطرها رؤيا واضحة من أجل غد أفضل ولأمة أكثر تماسكا و أكثر تقدما وعلما، حتما هي كتابة رزينة ومتزنة، تعرف كيف ترتب أولوياتها وتعرف بأن من أهم ضوابط الكتابة هي الحفاظ على وحدة الأمة حتى لا تمزقها الطائفية أو تعبث بها الفتن فتصير لقمة سائغة في متناول الأعداء. وأن تؤسس للتنافس الشريف الذي يتقاطع مع اقتناص الفرص واستغلال الأوقات الحاسمة لتصفية الحسابات أو لافتعال صراع يخدم إسرائيل أكثر من أن يخدم أي طرف في الداخل. إن القلم الحر هو القلم الذي يعرف بأن مجالات الكتابة لا حد لها وأن المجتمع العربي الإسلامي يحتاج، قبل أي وقت مضى، ليبني الرجال والنساء ويؤطر المواطنين ليتحول هذا المواطن من مستهلك إلى منتج في كل شيء: ينتج الأفكار ويبدع في وسائل التقدم والازدهار، وإلى مقتحم لكل المجالات، إسهاما منه لوضع لبنات تبني الأوطان وتدافع عن حماها، وتصد كل عدوان يستهدف مقدساتها. لأن العالم العربي الإسلامي بمقدساته يضمن استمراريته وحريته ويحقق كرامته.
إن الكاتب والمثقف عموما له مكان واحد ينسجم مع ما معه من علم وثقافة وهو الانحياز إلى الشعوب العربية وقضاياها العادلة . لأن الكثير من المرتزقة أفرادا وهيئات ظلوا يتلاعبون بمصير هذه الشعوب ومصير أبنائها. ووحده الكاتب الحر ذو القلم الملتزم من يلقي على عاتقه الوعد بالتخندق في صفوف الشعوب، والاستماتة في الدفاع عن قضاياها بالأخص قضايا كرامتها الممتهنة، وشرف نسائها المنتهكة. وحتى يقع التفاعل مع هذه الشعوب ومع همومها لابد له أن يلتزم الحياد فيما يكتب ويقول وأن يجعل له أخلاقيات يتمسك بها ولا يتنازل عنها مهما كان الوضع ومهما تعرض للنقد والرد.
إن المواطن العربي ليس في حاجة لمن يزرع فيه فكر العداوة وثقافة الإقصاء، كما أن ذوقه يمج خطابات التفرقة والتقسيم، تماما كما وقع في الجامعات العربية ونقاباتها الفاعلة إذ أن أكبر شيء نفر الجماهير الطلابية والعمالية من إطاراتها النقابية الشريفة العتيدة هو عقلية الأزمة وافتعال الصراعات، والحروب الدموية بين المناضلين.
إن المتصفح للجرائد، سواء منها الورقية أو الإلكترونية، يوشك أن يحكم على نخبتنا المثقفة بأنها نخبة أزمة وصراع وتضاد، إذ أقلامنا لازال الكثير منها لا يستطيع كتابة مقال دون اللجوء إلى قاموس القذف واللعن والسب. في حين أنه من الذكاء واللباقة أن تكتب الأقلام بموضوعية وتناقش الأفكار دون أن يعوزها في ذلك الدليل والحجة، فتنال احترام الخصوم قبل الأصحاب. لأن الخصم يحترم من ينتقده بعلم وأدلة وبنسق تحليلي واتزان موضوعي، ولكنه لن يجد مبررا لكاتب يغتال مصطلحات اللباقة والاحترام ويفتقد أدنى حس مسئول فيما يكتب ويدلي من آراء. إن الذاكرة العربية لازالت تستحضر المصطلحات التي لجأ إليها أحد القياديين للطعن في خصومه الشيوعيين فرماهم بالوطاويط والخفافيش. وقد مضت سنوات طوال ونسينا كل أسباب الصراع كما نسينا الأسماء والألقاب. ولكننا لم نستطع نسيان هذه الكلمات التي علقت بين فكي التاريخ ولعلها ستبقى تتوارثها الأجيال بعد الأجيال.
فما أيسر أن يغضب الإنسان..وما أيسر أن يلجأ لقواميس الأحياء الشعبية فينزل في الناس سبا وشتما ويتفنن في ابتكار أقبح الصفات والنعوت. ولكن ليس سهلا أن يلتزم الإنسان الهدوء ويقوم بطبخ مقال على نار هادئة. فيسدد ويقارب ويميز بين ما يقال وما لا يقال، بين ما يقبله القراء وما يرفضونه. فيفحص كلامه في ضوء المصالح والمفاسد، ويزنه بميزان الأخلاق الذي يعد أفضل ميزان، وإن اختلف مع أحد فليختلف بأدب حتى يحافظ على احترام خصمه له. وذلك طبعا بعدم التجريح أو القذف والرجم بما اختلف من النعوت، أو اختلاق أكاذيب وتلفيق تراهات لا أساس لها من الصحة مما يحول الاختلاف إلى خلاف ثم إلى عداوة وبغضاء.
لجأت في يوم من الأيام لقراءة مقال لأحد الأساتذة الأفاضل بأحد الجرائد الغرة الملتزمة وهو مقال يتحدث فيه عن عملية صلح وإصلاح ذات البين. فأهمية الموضوع أثارتني وهو من المواضيع التي أحب قراءتها والسماع عنها. وهو شأن كل مسلم يحب تصالح الناس كما يحب زوال الكراهية والبغضاء بينهم. وبمجرد أن بدأت القراءة حتى طالعتني جملة حالت، فورا، دوني ودون المقال فعدلت عن قراءته. وهذه الجملة هي قوله: " لأكون وسيط خير بين أناس لا خير فيهم". فالحكم على الناس بأن لا خير فيهم هو في حقيقة الأمر انعكاس لهذه الذات التي تنفي الخير عن الناس، وهي نظرة فوقية خطيرة، لأن إصدار مثل هذا الحكم، أو الحكم على النيات والاطلاع على السرائر هو فعل يختص به المولى سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وحتى لو أن هؤلاء فعلا، كما قال صاحب المقال، لا خير فيهم. فهل يعقل أن يضمنه مقاله الذي سيطلع عليه مئات الناس والمعنيون أنفسهم مما سيؤجج الوضع، ويكهرب الأجواء، ويعمل على تفشي الكراهية والبغضاء، وربما الرد بمقالات كثيرة فتتحول جرائدنا من منابر الوعي والعلم والتثقيف والإسهام في التغيير نحو الأفضل إلى حلبات صراع وفضح العورات وكشف العيوب والأسرار.
إذا كان الكتاب وهم حاملو مشاعل التنوير للقراء، قد وقعوا في معارك لا أخلاق فيها. فما الذي نتوقعه من الذين يعمهون في الجهل والأمية والتخلف من أبناء هذه الشعوب؟
أليس حريا بالنخبة المثقفة الواعية والكتاب المتنورين أن يرفعوا من مستوى أقلامهم بالترفع عن أساليب التخلف والانحطاط؟ أليس حريا بهم التركيز على الأفكار والآراء وعدم التعرض للذوات والأشخاص؟ أليس حريا بهم النظر لما في الناس من إيجابيات وعدم تسليط الضوء أكثر من اللازم على السلبيات؟ فمن الموضوعية إنصاف الناس وذكر ما فيهم من خير حتى ولو كانوا مجرمين فسقة. أما التغاضي عن الحسنات وتضخيم وتفخيم السيئات فو الله إنه لظلم وأي ظلم..وهو كفيل بأن يتحول إلى حالقة للدين والأخلاق.
إذا كان بعض الناس يعتقد بأن قذف الناس ورميهم بما قبح من النعوت والأوصاف جرأة وتغيير لمنكر. فإن المنكر بعينه هو هذا القذف وهذه النعوت. وإذا كانوا يعتقدون بأنهم دائما على صواب فيما استقبحوا من الناس وفيما عقبوا واستنكروا. فهذا مخالف لطبيعة الإنسان الذي جبل على الخطإ والنسيان، كما أنه مخالف للقول السديد الذي يقول بأن الكل يؤخذ ويرد في قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو يتقاطع مع كون كل بني آدم خطاء. كما أنه مخالف لمقولة رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
إنه سلوك من شأنه أن يدخل صاحبه في سجن الكبر والغرور، وربما قد يؤدي به إلى النظر إلى الخلق وكأنه إلاه يعبد من دون الله، وقد بعث أبناء هذه الأمة دعاة ولم يبعثوا قضاة.
فمتى نرقى بأفكارنا وأقلامنا ونحافظ على أخلاقنا ومبادئنا ونخرج من غرورنا المتصابي؟ متى؟ أم سنظل هكذا نلطخ بياض عقول القراء بالسواد الذي يتقاطر من أقلامنا الفظة الغليظة؟
إن مثل هذا يقع للكثير من الإعلاميين والكتاب والفنانين، الذين اشتغلوا بالكتابة في أمور، جعلتنا نعتقد أننا انتهينا من شبح البطالة، وقضينا على عار الجهل والأمية، وأن بلداننا قد استقامت وما عاد بها فساد إداري ولا زبونية ولا محسوبية ولا رشاوي. وأن وعي الجماهير بالواقع وصل مداه، وأن فلسطين الأسيرة تم تحريرها وهي الآن تنعم بالحرية على أرضها. وأن إسرائيل ألقيت في البحر ولم يعد لها وجود. وأن العراق الشقيق حقن دماءه وثأر للعرض والشرف وطرد الاحتلال من أراضيه، وحاكم الخونة الذين تاجروا بماضيه وحاضره.
فمن الحكمة والعلم الحديث عما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، ومن العقل والبصيرة اختيار المداخل الصحيحة لمعالجة قضايا العباد والبلاد. فليس كل حديث ذا جدوى وليس كل ما ننبس به هو ذو بال وقيمة.
إن المخرج السينمائي عبد القادر لقطع عندما قام بإخراج فيلمه "حب في الدار البيضاء" و فيلم " بيضاوة" إلى أن وصل إلى "الباب المسدود"، كان يظن بأنه يعالج قضايا تعد من الطابوهات، ولا أحد يمتلك الجرأة على الخوض فيها. فعالج قضية الفساد بالفساد؟ و حارب الدعارة بالدعارة؟. ولم يجد السيد لقطع إلا مثل هذه السيناريوهات كي يعالج بها قضايا بلده وأمته. وهو يعلم بأن الكثير من القضايا التي تستحق تسليط الأضواء لا تزال بكرا لم تخض فيها السينما بعد، وهي من القضايا الملحة التي تعبر عن معاناة حقيقية تعيشها البلاد العربية والإسلامية ويعيشها العباد.
إننا نشعر، أحيانا، بأن بعض الأقلام يحلو لها التحليق خارج السرب أو هي تنهج نهج" خالف تعرف" لأنها تتلهف لتصير اسما بارزا تتلقفه بالحديث والذكر الصحافة الوطنية الدولية. ولأنهم رأوا البعض ممن طعنوا الأمة في الظهر بمسهم بمقدساتها، قد تم تكريمه من طرف دول عدوة تريد لبلادنا العربية العيش في الفتن وبذلك تكون قد غررت بالأقلام وفتحت الباب في وجه الكتاب الخارجين عن الصواب.
والبعض يستهويه التشهير بالخصوم واقتناص الفرص للنيل منهم والتعبئة لضرب شعبيتهم خوفا من اكتساح محقق أو انتصار ديمقراطي مضمون.
ولحد الآن لم يع أصحاب الأقلام أنه ليس كل ما يعرف يقال. فالكتابة التي تسير في خط تغييري وتؤطرها رؤيا واضحة من أجل غد أفضل ولأمة أكثر تماسكا و أكثر تقدما وعلما، حتما هي كتابة رزينة ومتزنة، تعرف كيف ترتب أولوياتها وتعرف بأن من أهم ضوابط الكتابة هي الحفاظ على وحدة الأمة حتى لا تمزقها الطائفية أو تعبث بها الفتن فتصير لقمة سائغة في متناول الأعداء. وأن تؤسس للتنافس الشريف الذي يتقاطع مع اقتناص الفرص واستغلال الأوقات الحاسمة لتصفية الحسابات أو لافتعال صراع يخدم إسرائيل أكثر من أن يخدم أي طرف في الداخل. إن القلم الحر هو القلم الذي يعرف بأن مجالات الكتابة لا حد لها وأن المجتمع العربي الإسلامي يحتاج، قبل أي وقت مضى، ليبني الرجال والنساء ويؤطر المواطنين ليتحول هذا المواطن من مستهلك إلى منتج في كل شيء: ينتج الأفكار ويبدع في وسائل التقدم والازدهار، وإلى مقتحم لكل المجالات، إسهاما منه لوضع لبنات تبني الأوطان وتدافع عن حماها، وتصد كل عدوان يستهدف مقدساتها. لأن العالم العربي الإسلامي بمقدساته يضمن استمراريته وحريته ويحقق كرامته.
إن الكاتب والمثقف عموما له مكان واحد ينسجم مع ما معه من علم وثقافة وهو الانحياز إلى الشعوب العربية وقضاياها العادلة . لأن الكثير من المرتزقة أفرادا وهيئات ظلوا يتلاعبون بمصير هذه الشعوب ومصير أبنائها. ووحده الكاتب الحر ذو القلم الملتزم من يلقي على عاتقه الوعد بالتخندق في صفوف الشعوب، والاستماتة في الدفاع عن قضاياها بالأخص قضايا كرامتها الممتهنة، وشرف نسائها المنتهكة. وحتى يقع التفاعل مع هذه الشعوب ومع همومها لابد له أن يلتزم الحياد فيما يكتب ويقول وأن يجعل له أخلاقيات يتمسك بها ولا يتنازل عنها مهما كان الوضع ومهما تعرض للنقد والرد.
إن المواطن العربي ليس في حاجة لمن يزرع فيه فكر العداوة وثقافة الإقصاء، كما أن ذوقه يمج خطابات التفرقة والتقسيم، تماما كما وقع في الجامعات العربية ونقاباتها الفاعلة إذ أن أكبر شيء نفر الجماهير الطلابية والعمالية من إطاراتها النقابية الشريفة العتيدة هو عقلية الأزمة وافتعال الصراعات، والحروب الدموية بين المناضلين.
إن المتصفح للجرائد، سواء منها الورقية أو الإلكترونية، يوشك أن يحكم على نخبتنا المثقفة بأنها نخبة أزمة وصراع وتضاد، إذ أقلامنا لازال الكثير منها لا يستطيع كتابة مقال دون اللجوء إلى قاموس القذف واللعن والسب. في حين أنه من الذكاء واللباقة أن تكتب الأقلام بموضوعية وتناقش الأفكار دون أن يعوزها في ذلك الدليل والحجة، فتنال احترام الخصوم قبل الأصحاب. لأن الخصم يحترم من ينتقده بعلم وأدلة وبنسق تحليلي واتزان موضوعي، ولكنه لن يجد مبررا لكاتب يغتال مصطلحات اللباقة والاحترام ويفتقد أدنى حس مسئول فيما يكتب ويدلي من آراء. إن الذاكرة العربية لازالت تستحضر المصطلحات التي لجأ إليها أحد القياديين للطعن في خصومه الشيوعيين فرماهم بالوطاويط والخفافيش. وقد مضت سنوات طوال ونسينا كل أسباب الصراع كما نسينا الأسماء والألقاب. ولكننا لم نستطع نسيان هذه الكلمات التي علقت بين فكي التاريخ ولعلها ستبقى تتوارثها الأجيال بعد الأجيال.
فما أيسر أن يغضب الإنسان..وما أيسر أن يلجأ لقواميس الأحياء الشعبية فينزل في الناس سبا وشتما ويتفنن في ابتكار أقبح الصفات والنعوت. ولكن ليس سهلا أن يلتزم الإنسان الهدوء ويقوم بطبخ مقال على نار هادئة. فيسدد ويقارب ويميز بين ما يقال وما لا يقال، بين ما يقبله القراء وما يرفضونه. فيفحص كلامه في ضوء المصالح والمفاسد، ويزنه بميزان الأخلاق الذي يعد أفضل ميزان، وإن اختلف مع أحد فليختلف بأدب حتى يحافظ على احترام خصمه له. وذلك طبعا بعدم التجريح أو القذف والرجم بما اختلف من النعوت، أو اختلاق أكاذيب وتلفيق تراهات لا أساس لها من الصحة مما يحول الاختلاف إلى خلاف ثم إلى عداوة وبغضاء.
لجأت في يوم من الأيام لقراءة مقال لأحد الأساتذة الأفاضل بأحد الجرائد الغرة الملتزمة وهو مقال يتحدث فيه عن عملية صلح وإصلاح ذات البين. فأهمية الموضوع أثارتني وهو من المواضيع التي أحب قراءتها والسماع عنها. وهو شأن كل مسلم يحب تصالح الناس كما يحب زوال الكراهية والبغضاء بينهم. وبمجرد أن بدأت القراءة حتى طالعتني جملة حالت، فورا، دوني ودون المقال فعدلت عن قراءته. وهذه الجملة هي قوله: " لأكون وسيط خير بين أناس لا خير فيهم". فالحكم على الناس بأن لا خير فيهم هو في حقيقة الأمر انعكاس لهذه الذات التي تنفي الخير عن الناس، وهي نظرة فوقية خطيرة، لأن إصدار مثل هذا الحكم، أو الحكم على النيات والاطلاع على السرائر هو فعل يختص به المولى سبحانه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وحتى لو أن هؤلاء فعلا، كما قال صاحب المقال، لا خير فيهم. فهل يعقل أن يضمنه مقاله الذي سيطلع عليه مئات الناس والمعنيون أنفسهم مما سيؤجج الوضع، ويكهرب الأجواء، ويعمل على تفشي الكراهية والبغضاء، وربما الرد بمقالات كثيرة فتتحول جرائدنا من منابر الوعي والعلم والتثقيف والإسهام في التغيير نحو الأفضل إلى حلبات صراع وفضح العورات وكشف العيوب والأسرار.
إذا كان الكتاب وهم حاملو مشاعل التنوير للقراء، قد وقعوا في معارك لا أخلاق فيها. فما الذي نتوقعه من الذين يعمهون في الجهل والأمية والتخلف من أبناء هذه الشعوب؟
أليس حريا بالنخبة المثقفة الواعية والكتاب المتنورين أن يرفعوا من مستوى أقلامهم بالترفع عن أساليب التخلف والانحطاط؟ أليس حريا بهم التركيز على الأفكار والآراء وعدم التعرض للذوات والأشخاص؟ أليس حريا بهم النظر لما في الناس من إيجابيات وعدم تسليط الضوء أكثر من اللازم على السلبيات؟ فمن الموضوعية إنصاف الناس وذكر ما فيهم من خير حتى ولو كانوا مجرمين فسقة. أما التغاضي عن الحسنات وتضخيم وتفخيم السيئات فو الله إنه لظلم وأي ظلم..وهو كفيل بأن يتحول إلى حالقة للدين والأخلاق.
إذا كان بعض الناس يعتقد بأن قذف الناس ورميهم بما قبح من النعوت والأوصاف جرأة وتغيير لمنكر. فإن المنكر بعينه هو هذا القذف وهذه النعوت. وإذا كانوا يعتقدون بأنهم دائما على صواب فيما استقبحوا من الناس وفيما عقبوا واستنكروا. فهذا مخالف لطبيعة الإنسان الذي جبل على الخطإ والنسيان، كما أنه مخالف للقول السديد الذي يقول بأن الكل يؤخذ ويرد في قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو يتقاطع مع كون كل بني آدم خطاء. كما أنه مخالف لمقولة رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
إنه سلوك من شأنه أن يدخل صاحبه في سجن الكبر والغرور، وربما قد يؤدي به إلى النظر إلى الخلق وكأنه إلاه يعبد من دون الله، وقد بعث أبناء هذه الأمة دعاة ولم يبعثوا قضاة.
فمتى نرقى بأفكارنا وأقلامنا ونحافظ على أخلاقنا ومبادئنا ونخرج من غرورنا المتصابي؟ متى؟ أم سنظل هكذا نلطخ بياض عقول القراء بالسواد الذي يتقاطر من أقلامنا الفظة الغليظة؟