المسلم المعاصر ومطلب الفعالية
عبد الرحمن الخالدي
يمر العالم الإسلامي اليوم بفترة هي من أحلك وأصعب فترات التاريخ الإسلامي، وقد ألفت في سبب ذلك كتب ومؤلفات، وعقدت ندوات ومؤتمرات. غير أن الخلاصة التي يمكن أن يخرج منها المتأمل في أسباب إخفاق الأمة الإسلامية والنجاح الباهر الذي يحققه الآخر والعلو الذي يعيشه على حساب المسلمين، هي أن أمة الإسلام لم توظف بعد كل طاقاتها في الانتشال من وهدة التبعية للآخر، بل استسلمت أحياناً لـ "نظريات التآمر" التي تلقي مسؤولية تخلف المسلمين للغرب ولمن يدور في فلكه، معتبرة إياه المسؤول الأول عن واقعنا، ناسية أو متناسية قول الله تعالى: (ألوما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) سورة آل عمران الآية 165.
الواقع لا يحابي أحداً
لا تظن أن أسباب تخلف المسلمين أسباب داخلية محضة، لكن لا يمكن الجزم إطلاقاً بأن "الآخر" هو دائماً المسؤول عما يحل بنا من مصائب ومحن، من فلسطين والعراق والسودان وغيرها من دول الإسلام، بدليل أن كل الوقائع والدلائل تؤكد أن المسلمين لم يعودوا فعالين في الواقع بالشكل الذي كان عليه سلفنا الصالح، بل ارتكنوا إلى الظل وإلى التأمل في الآخر وتعليق أسباب الهزيمة على مشذبه، وأصبح مفعولاً بهم في الساحة الدولية بدل أن يكونوا فاعلين، في الوقت الذي تدل فيه حقائق ومعطيات الحياة وسيرورتها على أن "الواقع لا يرتفع" ولا يحابي أحداً، كما أقر بذلك أصوليونا رحمة الله عليهم، على اعتبار أنه لتحقيق النصر لا بد من الأخذ بشروطه وأسبابه، ولا يهم في ذلك أكان من أخذ مسلماً أم غير ذلك، ولنا في الولايات المتحدة الأمريكية الآن وغيرها من الدول الغربية خير مثال.
يحتاج المسلمون البالغ عددهم اليوم ما يفوق ملياراً ومائتي مليون مسلم إلى بعض الفعالية الواجب توافرها في كل من أراد أن يحقق إقلاعاً نحو عالم أفضل، وإلا ظل مشدوداً إلى الأدنى بفعل جاذبية الأرض، ذلك أن هذا الشرط، على سهولة مطلب توافره، فإن تحقيقه لا يمكن أن يتأتى إلا لمن توفرت له إرادة الانتصار، والرغبة في التخلص من هذا الواقع المظلم، وما الفعالية إلا اجتماع أركان وشروط ثلاثة، يتعلق أولها بتوفر شرط القدرة على الفعل والعمل، ذلك أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يحملها ما لا طاقة لها به، كما لا يحاسب المرء على ما ليس في مقدوره. ويتعلق ثانيها بترجمة القدرة على العمل إلى فعل وعمل له نتائجه، وهو ما يعتبر أداء للواجب وقياماً بالمسؤولية. وآخرها طبعاً استحضار النية والقصد في كل ما نقوم به، وذلك هو الفيصل بين ما كان لله وما كان لغيره.
إن العالم الإسلامي اليوم في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لمن يحرص على تحويل "القابلية للاستعمار"، على حد تعبير المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، وتحويل إرادة هزيمة، على حد تعبير غيره، إلى رغبة جامحة قوية في الانتصار والأخذ بأسبابه، وذلك لا يتأتى إلا من خلال تمكن الإنسان المسلم من استعمال وسائله الذاتية الأولية المتاحة له والتي في حوزته والتي لا يتعلق استخدامها بترخيص أو إذن من الآخر، واستخراج أقصى ما يمكن منها من النتائج والفوائد، وتلك هي الفعالية التي تقابل بالمصطلح القرآني "الكَلِّيَّة" في قوله تعالى في سورة النحل: (وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم) سورة النحل الآية 76.
حاجة الأمة للفعالية
إن الذي يستشعر حقاً وبشكل جيد حاجة الأمة الإسلامية إلى هذا الركن الأساس في إعادة النهوض هم العاملون في حقل الدعوة الإسلامية والمهتمون بمستقبل الإسلام مقارنة مع قوة الآخر ومواصلته لامتلاك كل أسباب السيطرة والهيمنة، ذلك أنه بالنظر إلى عدد العاملين في حقل الدعوة والوسائل المسخرة لذلك، والبرامج والتصورات التي تصاغ من أجل ذلك، هنا وهناك، وعمليات التنسيق والتعاون في العديد من المحطات ... إلخ، كل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الحركة الإسلامية في طبعتها الحالية ما تزال أبعد عن أن تحقق البعد الكوني والعالمية للإسلام، بما يتضمن ذلك من التزام بقواعده وتوجيهاته في كل مجالات الحياة، وليس مرد ذلك إلى فعالية الآخر وحسب، ولكن أيضاً إلى تقاعس الأمة وارتكانها إلى الخلف والتسابق نحو إبراز مظاهر وحقيقة الولاء للقوى الكبرى في العالمم، وسوء توظيف الطاقات والإمكانيات التي حباها بها الله تعالى، والتي تشكل حتماً عناصر قوة ومنافسة للآخر.
إن المتأمل في واقع أمة الإسلام اليوم يدرك أن الذي ينقصها ليس البرامج والتصورات، وليس الكم البشري، وليس المواقف من القضايا الحية ومن التوجهات السياسية المعتمدة هنا وهناك، ولكن الذي ينقصها هو التحرك بفعالية بمبادئ الإسلام والالتزام به، عبادة ومعاملة, ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال منذ أربعة عشر قرناً خلت: "الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد منهم راحلة".
إن ذلك لعمري أبلغ دليل على كثرة عدد المسلمين وندرة الفعالين منهم، فإلام يرد الباحثون أسباب هذه الكَلِّيَّة، وكيف نحقق الفعالية في جسم الأمة؟