كثيرا ما نلتقي في هذه الحياة مع أناس اختاروا عالم ارتداء الأقنعة وجادوا فيها، بل وأصبحوا يتفنون في ارتدائها، مقاسات مختلفة، ألوان عديدة، ولكل منها مناسبة خاصة.
فعند البعض، والمعضلة أنهم كثر، أصبح ارتداء الأقنعة أمرا ضروريا لسير الحياة عندهم بشكل عادي ومرن، دون تعقيدات ولا إشكاليات، أقنعة مختلفة باختلاف الظرفية والمكانية، وفاء، إخلاص، تفاؤل، تجمل، سعادة، نبل، شهامة، شرف، نخوة، كبرياء، رضى بالقدر، والقائمة طويلة ولا حصر لها، وتختلف حسب نفسية مرتدي القناع، وحسب الظروف التي وجد فيها، نأخذ شخصا ما، إنسان نسلط عليه الأضواء، ونتبعه ونقتفي أثره، لكي نعرف، لماذا اختار لبس القناع؟ وما الجدوى من ارتدائه؟
فعلى بركة الله، نتبعه إلى عمله، نجده محبا لهذا العمل، مخلصا فيه، يقوم بكل ما يطلب منه دون تذمر أو انزعاج، دائم الابتسام، والخضوع والاستكانة، لكنه في حقيقة الأمر، يكره عمله، فهو لم يحب يوما أن يكون مرؤوسا عليه، يكره توجيه الأوامر له، يمتعض في سره دائما، ويلعن الساعة التي دخل فيها ذاك العمل، والتصق به، لعدم وجود البديل.
في تعامله مع النساء، جنتلمان، يعامل المرأة بلطف(يقول عنها نصف المجتمع وتربي النصف الثاني، يعني مجتمعا بأكمله) ينحني لها، يقبل الأيادي تعبيرا عن الشهامة والتحرر، يقدمها عليه، ويمشي وراءها، ويحمل شعار: " المرأة أولا" لكنه ماكان يوما هكذا، بل يمقت تلك الانحناءة والتي تعبر عن ضعف وخضوع، بل يعتبرها مذلة، لكنها ضرورة "الإيتيكيت".
في المسجد وفي مجالس العلم، نجده يرتدي عباءة عمر، يظهر التدين والرقي في الحديث، يبدي النصح للجميع، ويطيل الركوع والسجود،لن أقول عنه منافق، بل يقوم بذلك سمعة ورياء، حتى يضمن احترام جميع الناس، وحتى يقال عنه، صادق أمين،
أما في المقهى أو الحانة، فحدث ولا حرج، يمكن أن يظهر بمظهر الرجل، الذي لا يقهر، ويسرد عنترياته المتعددة، أمام مسامع الحضور، وربما سرد لهم قصة محاربته لطواحين الهواء، لكي يصبح وجوده ضروريا، وليجلب نحوه اصدقاء جدد ممن هم على شاكلته.
سندخل معه بيته، يكون الآمر الناهي، عندما يدخل يصمت المتكلم، ويخرس الضاحك، ويتوقف الطفل عن الركض، تجري زوجته في اتجاهه، حتى لا يغتاظ، ويبدأ من النقطة التي انتهى فيها البارحة من شتم ولوم وعتاب.
عندما يكون هناك ضيوف، يجب أن تروه بأم أعينكم، متغيرا تماما، حنون، لطيف مع زوجته، صوت خافت، مسالم، طيب مع أبنائه، يجعل الزائر يحسد زوجته وابناءه عليه.
في المناسبات الرسمية: محاضرات، ندوات، مناقشات، يظهر نفسه بمظهر المحاور الفذ، صاحب النظريات القيمة، والتي تدرس في أعتى الجامعات، ضابطا للأمور، متحكم في دفة النقاش بأسلوبه الواعي، المتحضر، الديمقراطي، العارف بمجريات الأمور، المفكر، علامة عصره وزمانه، المتعمق في الطرح، مفتخرا بواقع ولد فيه وترعرع، لكنه في داخله، يلعن الماضي والحاضر والمستقبل، والناس أجمعين.
أحبتي، نجد أن عالم الأقنعة، ليس مقتصرا على فئة معينة من المجتمع، بل تعداه لمن تسمي نفسها بالنخبة، بل يمكن اعتبارها هي صاحبة براءة الاختراع، طبعا اختراع أقنعة الزيف والنفاق، والضحك على النفس وعلى الآخرين.
فرؤساء الدول مثلا وهم قمة الهرم، نجد أقنتهم مكشوفة، لبعضهم البعض ومع ذلك يطلقون بسمات وضحكات ونكات، وتصفيق على بعضهم البعض، وهو يعرفون أن كل ذلك خداع ومكر وزيف، لتمرير صفقات، تحت أو فوق الطاولات، وإمضاء عقود وجلب استثمارات ومنح قروض باضعاف الأضعاف من الفائدة، لكن القناع الأخطر الذي يضعونه، هو قناع الضحك على الشعوب ويظهرون بمظهر الخدام لها،والخائفين على مصلحتها يقدمون لهذه الشعوب حرية ملغومة، تنفجر عند أول احتكاك أو تصادم، لكنهم في النهاية، لا يعرفون سوى مصلحتهم الشخصية، ولا يرضون عن البطش والقبضة من حديد بديل.
إذا، إذا لم يقنع كل منا ويقتنع ويقنع الآخرين بوجهه الحقيقي المظهر لكل ما يتغلغل في الصدر مبرزا لواعج تلك النفس الخفية، وتلك الأحاسيس الملتهبة، ومظهرا دواخله كما هي بدون زيف أو خداع، على الأقل سيخفف عنه حمل حقيبة الأقنعة، والتي أصبحت ملازمة له، أينما حل وارتحل.
لقد أعجبني هذا الموضوع، لكنه غلبني، فلم أستطع التشعب فيه وسبر أغواره، وتفصيل المفصل لقلة خبرتي بعالم الأقنعة وبالحياة عموما، بالإضافة إلى أنني لا أملك الأدوات اللازمة لاستكمال هذا الموضوع والإحاطة به من جميع جوانبه.فها أناأصدقائي أضعه بين أيديكم، لتقوموا بإثرائه، إذا كان يستحق، فلا تبخلوا علي بردودكم، وآرائكم.